كانت لحظة سقوط نظام الأسد بالنسبة لملايين السوريين بداية لمرحلة جديدة بعد سنوات طويلة من القمع والخوف. وفي خضم هذا التحول الكبير، برزت حكايات لشباب دفعوا أثمانًا باهظة نتيجة مواقفهم وانحيازهم للحرية. ومن بين تلك القصص تبرز قصة مناف العلي، الشاب المنحدر من الرقة، والذي تعكس رحلته مسار جيل كامل مر بتجارب قاسية لكنه ظل متمسكًا بالأمل.
نشأ مناف في الرقة، المدينة التي عاشت فصولًا متقلبة خلال الحرب؛ بين سيطرة فصائل الجيش الحر، مرورًا بسيطرة الفصائل المتعددة، ثم حكم تنظيم “داعش”، وصولًا إلى سيطرة قوات قسد. هذا الواقع شديد الاضطراب ترك بصمته على شباب المدينة، حيث عاشوا سنوات مثقلة بالتهديدات وفقدان الاستقرار.
قبل اشتداد الثورة، التحق مناف بجامعة بيروت لدراسة الحقوق، باحثًا عن مسار أكاديمي يفتح له أبواب المستقبل. إلا أن تصاعد الأحداث وازدياد المخاطر الأمنية والخوف من الاعتقال بسبب مواقفه المؤيدة للثورة، أجبره على ترك دراسته والعودة إلى الرقة.
يستعيد مناف تلك المرحلة قائلًا: “الخوف كان يلاحقنا في كل خطوة. مواقفي الداعمة للثورة وضعتني في دائرة الخطر، فلم أعد قادرًا على متابعة دراستي. عدت إلى الرقة وعملت مع عائلتي في الزراعة وبعض الأعمال اليومية لتأمين احتياجاتنا.”
لم تكن الحياة في الرقة أيسر، فقد توالت السيطرة عليها من جهات مختلفة، ما فرض مستويات متعددة من الخوف والقيود. عاش مناف تلك السنوات وهو يحاول الحفاظ على نفسه وعائلته، فيما كان حلمه الأكاديمي يتراجع أمام تعقيدات الواقع.
ويضيف: “كل يوم كان يحمل احتمال وصول خبر اعتقال صديق، أو اختفاء شخص أعرفه. شعرت لسنوات أن مستقبلي توقف مكانه، وأنني محاصر بين الخوف واللااستقرار.”
وبعد سقوط النظام وتحسن الظروف نسبيًا، وجد مناف فسحة من الأمل. فعاد إلى بيروت وأعاد تسجيله في الجامعة، ولكن هذه المرة في تخصص حقوق الإنسان، إيمانًا منه بأن المعرفة أداة مهمة للمساهمة في بناء وطن عادل.
لم تكن العودة سهلة بعد سنوات الانقطاع، لكنه تجاوز التحديات بجهده وإصراره. وافتتح كذلك مقهى صغيرًا في بيروت ساعده في تحسين وضعه المعيشي ووضع أسرته.
ويقول مصطفى العلي، أحد أقارب مناف: “قصة مناف تختصر مسيرة شاب لم يستسلم رغم كل الظروف. شباب الرقة مروا بتجارب قاسية، لكنهم قادرون على النهوض، ومناف مثال واضح على ذلك.”
أما مناف نفسه فيختم حديثه بقناعة راسخة: “نحن شباب الثورة، مررنا بالخوف والاضطرابات، لكن إرادتنا لا تكسر. الحرية حقنا، والعلم طريقنا لبناء مستقبل جديد.”
هكذا تتجسد في مسيرة مناف العلي قصة جيل لم تهزمه السنوات العصيبة، بل صقلت عزيمته، لتبقى رحلته شاهدًا حيًا على قدرة الإنسان على النهوض مهما اشتدت المحن.









