لم تكن معركة “ردع العدوان” محطة عابرة في تاريخ الصراع السوري، بل كانت خلاصة مسار طويل بدأ من درعا عام 2011، وامتد عبر سنوات من المقاومة، التسويات القسرية، العمل الأمني، والانهيارات المتتابعة داخل بنية النظام، وصولاً إلى لحظة التحام جبهات الشمال والجنوب في مشهد واحد انتهى بدخول دمشق في 8 كانون الأول 2024.
درعا… المدينة التي لم تتوقف منذ 2011
يؤكد القيادي في غرفة عمليات الجنوب، أبو حيان حيط، لموقع سوريا 24 أن فهم معركة التحرير لا يمكن أن يتم دون فهم درعا نفسها، يقول بوضوح: “درعا لم تتوقف عن العمل المقاوم منذ عام 2011 وحتى يوم التحرير 18 كانون الأول 2024”.
فما جرى بعد 2018 لم يكن نهاية للقتال، بل انتقالاً إلى نمط جديد من المقاومة: عمليات أمنية متتابعة استهدفت الضباط، الحواجز، السيارات العسكرية، والعناصر المرتبطين بالمشروع الإيراني، إضافة إلى إسقاط عملاء الميليشيات مباشرة.
ويشرح أن سيطرة النظام على المحافظة بعد التسويات كانت شكلية، متركزة في “المربع الأمني” داخل المدن، بينما بقيت الأرياف الغربية والشرقية والشمالية “محررة عملياً”.
ولهذا يؤكد حيط أن: “الحديث عن لحظة قرار دخول المعركة غير دقيق، لأن درعا لم تتوقف أصلاً كي تتخذ قراراً ببدء التحرير”.
التهجير والتسويات القسرية
في منتصف 2018، فرض النظام على درعا ما سمي “التسويات”، لكنها كانت في الواقع خياراً قسرياً تحت ضغط عسكري كثيف. بعد سقوط بلدات الريف الشرقي، وُضع الأهالي أمام معادلة واضحة: إما الاعتقال أو التهجير.
خرجت قوافل “الباصات الخضراء” نحو الشمال حاملة معها آلاف المقاتلين والناشطين والمدنيين، بينما بقي آخرون داخل المحافظة تحت منظومة أمنية مشددة، واعتقالات، وضغط اقتصادي.
ومع مرور الوقت، تحول هذا الانقسام بين الداخل والمهجرين إلى خط تواصل حقيقي، بقي أبناء درعا في الشمال مرتبطين بمدينتهم، يتابعون ما يجري، ويتواصلون مع مجموعات الداخل التي واصلت العمل الأمني رغم القيود.
وبهذا الشكل، تحول التهجير القسري من جرح مفتوح إلى رصيد بين الداخل والخارج، سيظهر أثره بعد ست سنوات حين عاد المهجرون ليقاتلوا في مسار التحرير.
الجنوب بين الانتظار والاشتباك
يقول أبو حيان إنه كان من أوائل من تواصلت معهم غرفة عمليات “ردع العدوان”، وطُلب منهم تجهيز المجموعات والاستعداد، موضحاً أن: “الاسم – ردع العدوان – لم يكن يعكس توقعاً بتحرير كامل أو سقوط النظام بهذه السهولة؛ كان الهدف الأساس ردع العدوان ومنع التمدد”.
ويضيف أن درعا ظلت تتفاعل مع كل جبهة تفتح في الشمال أو غيره، بهدف تخفيف الضغط عن المناطق الأخرى، بينما كانت الفصائل تدرس مفاصل النظام وتخترق نقاط ضعفه طوال السنوات التي سبقت المعركة.
قيادة الداخل بانتظار التحام الجبهات
في داخل درعا، كان أبو خيطان يقود الحراك الميداني بنفس هادئ وثابت. حافظ على تماسك المجموعات المحلية، ونظم العمل الأمني، وظل على تواصل مع المهجرين في الشمال.
كان مقتنعاً بأن لحظة التحرير لن تكون جنوبية فقط، بل لحظة التقاء بين خطين: خط الخارج الذي هجر عام 2018، وخط الداخل الذي صمد رغم كل الظروف.
الشمال قبل العاصفة
في الشمال، يروي القيادي في غرفة عمليات “ردع العدوان” والمهجر من درعا عصمت العبسي مسار العمليات التي سبقت الانفجار، يقول لموقع سوريا 24: “لم تكن السنة الماضية مجرد عام صعب… كانت أسوأ سنة مرت على الثورة، سنة شعرنا فيها أننا سنباع بسوق النخاسة”.
فبينما كانت دول عديدة تعيد علاقاتها مع دمشق، كانت غرفة العمليات المشتركة تجهز لعملية مختلفة تماماً، يقول العبسي: “انطلقت معركة رد العدوان كرد مباشر على التصعيد العسكري، والقصف بالطائرات المسيّرة، والهجوم الإيراني”.
ويستذكر تهديدات النظام قبل بدء عملية “ردع العدوان”، ووعيده لإدلب وأهلها بأنه “سيرفع علم النظام فوق إدلب… وسيستعيد السيطرة على الشمال”.
وفي خان شيخون، كانت مجموعات حزب الله تقول للمهجرين: “نحن بحارتكم وببيوتكم… ولن تعودوا”. … “كانت تلك اللحظة… لحظة لا بد فيها من المعركة.”
الانهيار بعد ثلاثة أيام
بعد ثلاثة أيام فقط، انهارت خطوط دفاع النظام، وتقدمت قسد نحو مناطقه، وفي 30/11 تغير الموقف التركي بالكامل وصار مؤيداً للمعركة.
فصل الرأس عن الجسد
توحدت الجبهات، فسقط الفوج 46، قُطع طريق M5، تحررت سراقب، ثم السيطرة على عقدة M5 وM4، وصولاً إلى دخول حلب. يصف العبسي هذه المرحلة بأنها: “محطة فصل الرأس عن الجسد”.
عودة الشمال… لحظة وصول العبسي إلى درعا
بعد استكمال الخطوات الكبرى في الشمال، تحرك العبسي جنوباً حتى وصل إلى درعا، والتقى أبو خيطان. مثّل هذا اللقاء لحظة رمزية وعسكرية في آن واحد: المهجرون الذين خرجوا قسراً عام 2018 عادوا كمقاتلين ضمن تنسيق كامل مع الجنوب.
وبهذا الالتحام، اكتملت الصورة: خطان فصلتهما الباصات الخضراء… يعودان ليقفلا دائرة التحرير في المكان نفسه الذي انطلقت منه الثورة.
7–8 كانون… السقوط
في 7 كانون الأول، أعلن تحرير درعا والسويداء، وفي الثامن من الشهر ذاته دخلت القوات العاصمة دمشق من محاور درعا والبادية وريف دمشق والتنف.
يكشف العبسي: “بعد معركة خان شيخون كان آخر قصف روسي، تم التواصل مع روسيا: إما توقف القصف أو نضرب مطارات حميميم بصواريخ الشاهين”، وبذلك تم تحييد روسيا عن المعركة، كما يقول.
تتفق شهادات أبو حيان، أبو خيطان، والعبسي على أن التحرير لم يكن قراراً مفاجئاً، بل نتيجة مسار طويل من الصمود، العمل السري، إعادة تشبيك الداخل بالخارج، والعودة من التهجير إلى الجبهات.
درعا التي انطلقت منها صرخة الثورة الأولى… كانت أيضاً النقطة التي اكتمل عندها مشهد التحرير بعد أربعة عشر عاماً من القتل والتهجير الذي مارسه نظام الأسد ضد الشعب السوري الأعزل، فهجر الملايين وقتل مئات الآلاف، لكنه رحل في النهاية، وبقيت سوريا العظيمة.








