Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

الحرب الأهلية بين روسيا وسورية!

بعد غياب الإعلام الهولندي طويلاً عن الحدث السوري، تكرم علينا البرنامج السياسي اليومي “ساعة إخبارية” بالأمس بتقرير عن أصحاب “الخوذ البيضاء”، من خلال لقاء أجرته القناة الأولى الهولندية مع “كينث روث” الناطق باسم منظمة هيومن رايتس ووتش حول هذا الموضوع.
تجنبت القناة أن تبدي أي تعاطف أو انحياز كأنها مؤمنة تماماً بأن القضية المطروحة تتناول صراعاً بين طرفين، وأن الموضوعية تتطلب الحيادية التامة، باستثناء تساؤلاتها الملحة عن حقيقة أصحاب الخوذ البيضاء ومدى ارتباطهم بالمجموعات الإرهابية، رغم اعتراف العالم بأسره بدورهم الإنساني البحت، ولحسن الحظ فقد جاءت إجابات الناطق باسم المنظمة منصفة وموضوعية.
لأكثر من أسبوعين على التوالي، وبشكل يومي، كان الإعلام الهولندي يتابع قضية ما اصطلح على تسميته “فتيان الكهف” في تايلاند، وهم فريق لكرة القدم مؤلف من أحد عشر فتى مع مدربهم حوصروا في أحد الكهوف بعد امتلاء طريق العودة بالماء إلى أن تم إنقاذهم منذ أيام.
كل وسائل الإعلام الهولندية تابعت ذلك الخبر يوماً بيوم ولحظة بلحظة، وأوفدت مراسلين لإعداد تقارير يومية مفصلة، فيما أدارت ظهرها للحدث السوري برمته، وحتى حينما بدأ الروس قصف درعا، وبعد تشرد مئات الآلاف من السوريين في البراري، بقيت قضية فتية الكهف هي الخبر الرئيسي، ولم يبث الإعلام الهولندي سوى أخبار عابرة عن أحداث درعا.
ثمة قضية أخرى احتلت صدارة الأخبار في الإعلام الهولندي وعلى مدى أيام أيضاً، وهي قضية البجعات اللواتي تلوثن بالنفط المتسرب من إحدى سفن الشحن التي اصدمت بشاطئ روتردام، وقد اهتمت مؤسسات الدولة المعنية بالحدث، ليس فقط عن طريق نشره في وسائل الإعلام، فقد تشاركت مجموعة من المؤسسات في نقل البجعات إلى إحدى أماكن العناية، وتم تنظيفهن من آثار النفط على مدار ما يقرب من شهر ومن ثم معالجتهن باهتمام فائق وإعادتهن إلى مكان نظيف في مياه مدينة روتردام.
كل تلك الأخبار، وأخبار أخرى أقل أهمية، ولا سيما القضايا ذات البعد الإنساني، تشغل الرأي العام الأوروبي، فيما يبقى الحدث السوري وكأنه يدور في كوكب آخر، أو كأنه حدث تاريخي لا ينتمي إلى هذا الزمان وإلى اللحظة الراهنة.
ربما أثرت المدة الطويلة التي استغرقها الحدث السوري واستعصاء الحل، على حالة الاهتمام المطلوبة من البلدان التي تدعي احترام الحرية وحقوق الإنسان، وربما سيقبل السوريون انكفاء أوروبا عن مناصرة قضيتهم العادلة، ولكن أن تساهم أوروبا مساهمة حقيقية في تشويه الصورة وتزييف الحقائق عبر إطلاق توصيفات ومسميات لا تخدم إلا القاتل ولا تستهدف إلا الضحية، كالإصرار على توصيف الحرب الأهلية فما هي إلا دلالة شديدة الوضوح على الأخطاء المهنية المقصودة التي ساهمت ولا تزال في طمس الحقائق.
في حوارها مع الناطق باسم هيومن رايتس ووتش، بدأت المذيعة تقديم فقرتها تحت ذلك التوصيف “الحرب الأهلية” رغم أن طرفي الصراع الحقيقيين -أقله في درعا- هما الشعب السوري من أبناء درعا والجيش “الروسي” تحديداً.
إنه تناقض يتجاوز حد السخرية، فهل يعتبر الغرب القوات العسكرية الروسية واحدة من الفصائل السورية التي تحارب بعضها؟
لقد بات تدويل الصراع في سورية -حتى على المستوى العسكري- أوضح من أن يحتاج إلى إشارة أو دليل، فثمة قوات أجنبية متعددة الجنسيات دخلت إلى الأرض السورية وهي تقاتل لأهدافها السياسية كلا حسب مصالحه، وذلك ينفي أي علاقة للحدث السوري بمفهوم الحرب الأهلية.
قد يشفع للغرب اختلاط الصورة في فترة محددة من عمر الثورة السورية، وتخبط الأجندات السياسية، لإطلاق تسمية الحرب الأهلية كبديل عن الثورة، غير أن دخول روسيا المباشر على خط القتال منذ العام 2015، كان كافياً للكف عن استخدام هذا المصطلح المضلل، فبوجود الطرف الروسي في الصراع، أو أي طرف أجنبي تنتهي شرعية الكلام عن الحرب الأهلية، ولا سيما أن تلك الأطراف دخلت كدول لا كجماعات مناصرة لهذا الطرف أو ذاك، ووضعت كل إمكانياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية في خدمة المشروع الذي تهدف إلى تحقيقه.
وبصرف النظر عن الميليشيات الإيرانية التي تقاتل من خلال الدوافع الطائفية لتثبيت صورة الحرب الأهلية، فإن إيران كدولة لا يهمها حتى البعد الطائفي، فهي تستخدم الطائفة والدين كمحرك لمشروعها السياسي القومي العنصري، وقد كان على الغرب أن يوقف تسمية الحرب الأهلية منذ دخول حزب الله في الصراع باعتباره طرفاً خارجياً يمثل دولة إقليمية لا مجرد ميليشيا طائفية.
لقد اعتمد الغرب، بل وتعمد إطلاق مسمى الحرب الأهلية لسببين جوهريين، أولهما: التملص من استحقاقاته الأخلاقية والإنسانية، وثانيهما: الخوف من امتداد الفكر الثوري إلى أوروبا، فالمطلع على النظام السياسي والاقتصادي هناك يعي جيداً أن حاجة أوروبا إلى ثورة قد لا تقل عن احتياج البلدان العربية لها، وربما كان هذا المستوى المتناقض في الفهم والتقييم فيما يتعلق بالقضية السورية، كافياً لقيام تلك الثورة.
لقد وضع السوريون آمالاً كبيرة على مساعدة الغرب لهم بالتخلص من الديكتاتورية والقمع والوحشية التي يمارسها النظام ضدهم منذ عقود، والآن ،ويا للمفارقة، بات جل طموح السوريين أن يتوقف الغرب عن مساعدة الديكتاتور أو التخفيف من الخدمات التي يقدمها له بهدف تثبيته وإعادة تعويمه.
ربما يبقى المبرر الوحيد أمام الغرب لاستمرار تعويم تسمية الحرب الأهلية، هو التقارب الكبير بين كلمة سورية وروسيا إلى درجة انعدام الفوارق اللفظية، لم يصل الغرب طبعاً إلى ذلك المستوى من السذاجة، ولكنه وصل إلى المستوى المطلوب من تفضيل مصالحه السياسية الضيقة على حساب مفهوم الإنسانية.