Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

تجدها في هوامش الهوامش “النظام هو الله!”..

“المثقفون متوافرون بكثرة، ويقنعون بالقليل، الحاجة إليهم متواضعة، ومعرفتهم ببورصة الأسعار ضعيفة جداً، الطريف أنه لا تنقصهم الحجة، يؤدلجون العمالة للنظام على أنها امتياز تبرره الوطنية.
يتم توظيفهم سراً أو علناً بمبلغ شهري مقطوع، قوة تأثير المال فيهم مضاعفة، لأنه لا يقدّرون أثمانهم بشكل صحيح، فتُهضم حقوقهم بمكافآت زهيدة، ربما بسبب فقرهم، وتهافتهم على التمسح بالسلطة.
بينما الضباط الفاسدون، خبرتهم بالأسعار جيدة، وبطونهم ضخمة، لا يشبعون، ودائماً هل من مزيد؟”

“البوط العسكري ترسخ رمزاً للجيش الوطني، اعتبر مقدساً، حتى أصبح البوط الفاعس، أشرف من الإنسان المفعوس..”

بهذه الكلمات يوصّف الروائي السوري الكبير فوّاز حدّاد حال مثقفي السلطة، في روايته “الشاعر وجامع الهوامش” الصادر مطلع عام ٢٠١٧، ويواصل عبرها بحثه في الشأن السوري بعد عام ٢٠١١، ليقدم عملاً أدبياً رفيعاً على مختلف المستويات.

بين شاعر اعتقد أنه معارض وتحوّل إلى مخبر، وبين جامع للهوامش كان أستاذاً وتحوّل إلى منظّر، يتنقل الروائي السوري باحثاً عن إجابات لما يحدث في سوريا.

بطريقته البحثية التوثيقية، يغوص في عوالم؛ الشبيحة والتشبيح، الاعتقال والتعذيب، الثوار والمخبرين، الاغتصاب والتعفيش والقتل والجريمة، وعوالم أخرى متعددة.

“كان منظره مروعاً، سلخوا جلده حتى بانت عظام ركبتيه وكاحليه، دمه يسري من أنحاء جسده ويتجمع في مسارب متعددة، تقطر نقطة وراء نقطة من عقبيه، كوعيه، أذنيه، كتفيه… وجهه أحمر، خدوده أيضاً كشطت بالسكاكين، أجزاء من جسده مفقودة، اليد اليمنى بلا إبهام وسبابة، ربلتا الساقين مسحوبتين، لحم الكتفين مستأصل.. الذي تولى تعذيبه لحّام تسلى بتقطيعه، بغية ألا يبقى منه إلا العظام”.

“قانون واحد يسري في البلد، قانون التشبيح، لا شبه أي قانون في العالم، يبيح استعمال العصي والقضبان الحديدية والهراوات والقنابل الدخانية والدعس والرصاص، بلا كابح ولا حدود، ومن غير مساءلة، لا مكان إلى للشبيحة، كل موال مسوؤلا كان، أو وزيراً، أو نائباً، أو ضابطاً، أو صحفياً، أو كاتباً، أو محللاً سياسياً، أو مذيعاً… أصبح شبيحاً”

“عموماً، قدرات الشبيحة العقلية متواضعة، وفي تضاؤل، يعولون على عضلاتهم لا على رؤوسهم”

 

الدين والتديّن، كان محوراً أساسياً في بحث “حدّاد”، فذهب إلى تحليل ظاهرة التديّن الناشئة في المجتمعات السورية المعارضة، والبحث عن الدين من قبل الموالين للنظام، الدين الذي يكون فيه النظام هو “الله”.

فيما كان الغوص في تركيبة أزلام النظام الأسدي معبراً عن الواقع السوري في السنوات الست الماضية، فيقول على لسان أحد شخصياته:
“البوط العسكري ترسخ رمزاً للجيش الوطني، اعتبر مقدساً، حتى أصبح البوط الفاعس، أشرف من الإنسان المفعوس..”

“عموماً، قدرات الشبيحة العقلية متواضعة، وفي تضاؤل، يعولون على عضلاتهم لا على رؤوسهم”

في المقابل يضع تصورات لسيناريوهات تدور في أذهان المعارضين لنظام الإجرام، ويقول في أحدها:

“… تصوّر لو أنه سيخلّد فعلاً ويرافقنا إلى الأبد!! تصوّر أنّ السوريين لا يستطيعون النجاة منه حتى بالموت!! تصوّر أن سيبقى رئيساً حتى في الآخرة!! تصوّر أنه سيلاحقنا في الأبد وإلى الأبد…”

بين الاثنين، المعارض والموالي، يتخيّل “حدّاد” الورطة الذي أضحى فيها السوريين، ويقول:
“ما الحال؟ الجهاديون يقاتلون ضد الطغيان طمعاً في الجنة، ونحن تورطنا صرنا نقتلهم، ثم أصبحنا نقاتلهم دفاعاً عن أنفسنا، وطامعين أيضاً بالجنة، لكننا جميعاً سنلتقي في الجحيم، باتت الحرب انتحاراً جماعياً…”

“عالمان منفصلان.
عالم يعيش آلامه ولا يتجرأ على الشكوى حتى عندما يفيض به الحزن.
وعالم موتور يلغو بعبادة الرئيس، أو حرق الوطن”

أما الهوامش التي جاءت في عنوان الرواية، فكان لها دوراً كبيراً في الرواية، هذه الهوامش التي يهملها الكثيرون عند قراءة الكتب أو “التقارير في حالة هذا العمل الأدبي”، عادةً ما يكون لها فعلاً ضخماً في مجريات الأحداث، وتكون أساساً لتحركات الجميع، وتطورات الأحداث.

“لم يضع نقطة النهاية على التقرير، فما زال للهوامش هوامش”

هذه الهوامش التي أصبحت تكتب حياة السوريين، وتتحكم بآمالهم وأحلامهم، هوامش كتبت في أفرع المخابرات حيناً، وفي تقارير المخبرين أحياناً أخرى.

هوامش ظلت مهملة لعقود، لتكون عناوين رئيسية في كل المخطوطات التي تتحدث عن السوريين وحياتهم.

نجح “حدّاد” عبر روايته الثانية عن الثورة السورية “الشاعر وجامع الهوامش”، كما في روايته الأولى “السوريون الأعداء”، أن يوصّف الإجرام الذي يحدث في البلاد فنقرأ:

“قال العميد في جيش النظام: الشبيحة!! نعم إنهم زعران، لا علاقة لهم بالتهذيب، لكنهم مفيدون، الجنود أحياناً يترددون إزاء القتل، أما هؤلاء فمجرمون بالسليقة…”

“استشاط كبير الشبيحة غضباً فوق غضبه، لم يوفر الوفد الحقير، واتحاد الكتّاب العرصات، والشوام الأنجاس من شتائمه، فتصدى له شاعر عجوز شجاع، توعده أن يشكوه إلى المسؤولين في دمشق، فاستخراه وخري عليه، وعلى المسؤولين، وعلى العاصمة مأوى القحبات والشراميط…
عدا حبيبنا الرئيس سيد الوطن الذي نفديه بأرواحنا”

“كانت في السابعة عشرة من عمرها، ممددة على ظهرها مهشمة تماماً بين الموت والحياة، ملامحها غير واضحة، وتقاطيع وجهها متورمة، كدمات، سحجات، جروح…
تعرضت ربما إلى جميع أنواع التعذيب المعروفة، أطلعه الطبيب على الضرب بالعصي، الجلد على الظهر، إطفاء أعقاب سجائر على يديها وعنقها، التجريح بشفرات الحلاقة، حرق بطنها بمكواة ساخنة.
أما الذي لم يطلعه عليه، فهو عضوها التناسلي التالف، فقد اغتصبها عدّة رجال، وأيضاً اغتصبت بإيلاج عصا كهربائية في المهبل والشرج”

“عالمان منفصلان.
عالم يعيش آلامه ولا يتجرأ على الشكوى حتى عندما يفيض به الحزن.
وعالم موتور يلغو بعبادة الرئيس، أو حرق الوطن”

 

يؤجّل الكثير من الكتاب خوضهم في الشأن السوري إلى المستقبل، بذريعة أن التقاط الأحداث السورية بشكل حقيقي، وعكس الواقع المرير على الأرض كلمات وصور، أمر غير ممكن، ويقول هؤلاء أن الكلمات والصور لن تستطيع أن تعكس الواقع أو تحكيه بما يوفقه حقه.

ولكن الأمر مختلف عند “حدّاد”، فالتقاطاته الوصفية التوثيقية للحدث، جاءت متسقة معه بكل تفاصيله، والمتابع للشأن السوري، سيجد أن الكاتب السوري استطاع أن يختار شخصياته بعناية ودقة واحترافية، لتكون قاصّة واقعية لما يحدث، ودليلاً على ما يجري.

فأحداث الرواية التي تدور في فلك “شاعر” معارض، تحوّل إلى مخبر لفرع أمن، يُنتدب إلى بلدة ذات تنوع طائفي، لدراسة ظاهرة التدين والبحث عن دين جديد، يقودها أستاذ “يجمع الهوامش”، لم تكن مجرد قصة من نسج الخيال، بل هي انعكاساً لواقع سوري يدور كل يوم، بين تطرف وتعصب وقتل وتشريد واغتصاب واعتقال وتشبيح وتعفيش!

وربما أهم التقاطات “حدّاد” في روايته هذه، توصيفه لرؤية النظام للدين، وكيف يرى موالوه “الله”:

“ولكن الغرب “أعلن عن موت الإله مراراً في القرن الماضي، فلماذا نحييه في هذا القرن؟ ما جدوى إعادته إلى الحياة؟”
“النظام هو الله”، “حتى ولو كان الله حقيقة، لا بدّ أن نحيله إلى وهم، ليسهل علينا تشكيله كيفما نشاء”.
“لا إله إلا المخابرات، كانت كلية الوجود، كلية المعرفة، كلية القدرة. تمثل بكل كفاءة، الرب الجبار المهيمن العليم القادر المقتدر الغفار القهار الوهاب المنتقم الرزاق”