Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

هواجس لم تكتمل!

هواجس لم تكتمل!

مازلت أذكر تماماً تلك اللحظة التي قررت فيها مغادرة دمشق، كنت وحيدة تماماً، وحيدة وبعيدة عن كل ما حولي؛ العائلة، الأصدقاء، البيت والعمل.

كنت هائمة لا أجدُ موطِئ قدَم، وكانت الأرض كوحلٍ يزداد لزوجة يتربص بي من الجهات الأربع.

كانت الساعات تمضي وأنا أحدِّق في الزوايا والجدران والفراغات حولي. شاشة التلفاز مضاءة لكني لا أرى إلا وهج خيالات تتحرك، والهاتف الجوال يسحب يدي ليبقيني على صلة بالعالم، أما رنين الهاتف الأرضي فينبئ عن حدثٍ ما يحتاج جلسة نقاش.

وأجد نفسي اليوم أعيش، بمحضِ الصدفة، في مدينة فرنسية حيث الهاتف الأرضي لا يرِّن إلا من قِبَلِ أصحاب الشركات وكأنه مخصص للإعلانات فقط، مخصص لتوريطك في اشتراكٍ لا تحتاجه أو لعملية نصبٍ تقع فيها بسبب جهلك أحياناً وطمعك أحياناً أخرى!

وتبقى متمسكاً بهاتفك الجوال، وكأنه حبل النجاة ينتشلك من غربتك ويضعك على الطرف الآخر، يجعلك تغرق في كل ما حاولت الهرب منه، يجبرك على الاطلاع على الأحاديث السخيفة التي رفضت الخوض فيها وإلى المساومات الرخيصة التي تجاهلتها، وإلى كل المشاعر التي قررت تجميدها إلى حين!

السماء تمطر في دمشق، وأتذكر أنَّ لا أمل هناك، فإما جفاف يعتصر القلب أو مطر يغرق المدينة!

في المدينة الفرنسية تُمطر أيضاً، مطراً لم أر له مثيلاً إلا في أفلام السينما، حين تبدو البطلة وكأنها خرجت تواً من بركة سباحة، فاجأني يوماً، وفي أقل من خمسِ دقائق، صدَّقت ما كنت أراه وأعتبره مبالغة لضرورات السينما.

لكنه مع ذلك يبقى مطراً رحيماً، يغسل القلوب والشجر والجبل، يغسل الحارات والشوارع والرصيف، مطراً لا يغرق بيتك ورزقك، لا يهدد حياتك وحياة طفلك ولا يتحول إلى سيلٍ يجرفك معه، لأن فتحات المجاري في هذه المدينة لم تُغلق بالاسمنت فأهلها لا يخافون تسلل الإرهابيين من فتحات الأنفاق الأرضية!

في هذه المدينة كل شيء يحدث فوق الأرض. قد يأتيك السارق واضحاً وصريحاً، وقد تصيبك رصاصة طائشة خرجت من فوهة مسدسٍ بيد مُرَوج مخدرات يدافع عن زاويته المعتادة، أو يلاحق زميلاً اختلف معه على السعر، لكنه لم ولن يقصد إيذاءك أنت تحديداً، فأنت زبونه الدائم. باعة الحشيش يسيرون معك في الطرقات ويسألونك بلطف إن كنت بحاجة إلى ما يهدأ أعصابك.. قد ترفض وقد تشتري بعشرة يورو أو عشرين ما يكفيك يوماً أو يومين..

لا تنظر بعيني من يبيعك فهو مهاجرٌ غريبٌ مثلك يريد أن يعيش. لا تحرجه بأسئلة لا يعرف جوابها، حتى الشرطة هنا لا تفعل هذا! لا تهتم بمروجٍ عاجزٍ يبحث عن قوت يومه، قد تحتجزه لأيام ثم تفرج عنه. هنا لا اعتقالات تعسفية ولا إهانات مقصودة من عناصر أمن لا تعرف مصدر قوتهم، ولا ضرورة للهتاف للقائد أو للدبكة في الشوارع، فلا قائد لهم ولا انتصارات يحتفلون بها. رئيسهم لا يتعدى كونه موظف يحاورونه على المحطات التلفزيونية، كما يحاور مذيعونا المتهمين على شاشاتنا العربية. لم أسمع يوماً أن أحداً من هؤلاء الصحفيين العدائيين قد تعرض للاعتقال أو للقتل أو حتى للتوبيخ، بل بالعكس بعضهم قد يحصل على مكافأة لقدرته على إحراج السيد الرئيس واستخراج أكبر قدر من المعلومات من سيادته.

هنا قد يقلقك أمرٌ واحدٌ فقط، هو حريتك. ستبدو محتاراً ماذا تفعل بها، فأنت لم تعتد عليها ولم تمارسها، ستبقى بانتظار التعليمات دون جدوى، وحين يطلبون رأيك بأمرٍ يخصك تحتار، فتعيد عليهم السؤال لتعرف رأيهم هم. وقد تخجل أحياناً من شدة احترامهم لك، وتسأل نفسك ترى ما هو الثمن الذي عليك دفعه مقابل هذا الاحترام، فلقد اعتدت أن لكل شيء ثمن.

في وسط المدينة حيث أعيش، النهار هادئ إلا من ضجيج “الترام واي” المتهالك الذي يصدر صريراً عند التفافه في تلك الزاوية المقابلة لبيتي.. عدا ذلك لا تسمع أصوات البشر إلا فيما ندر! قبالتي تماماً مدرسة، اعتقدت أنها مهجورة فلا صوت للتلاميذ فيها، لكني انتبهت أنهم قد يصدرون بعض الضجيج أثناء الانصراف، أحياناً وليس دائماً.

في دمشق، كانت المدرسة على بعد حارة من بيتنا، وغالباً ما كنت أسمع صياح مدرب الفتوة عند تحية العلم في الصباح الباكر.

هل تذكرون ماذا كان يقول للتلاميذ وكيف كان يخاطبهم؟ أخجل أن أعيد عليكم العبارات لكني متأكدة أنكم تذكرون. أما عند نهاية كل فرصة فهناك اصطفاف واجب ومحاضرة عن ضرورة الانضباط. لست ضد الانضباط لكني أتساءل كم طالبا كان يهان في تلك الوقفة، وكم طالبا يعاقب بالزحف على ركبيتيه أو بطنه أو أكواعه؟

ولا أنسى في الباحة، كم يزعق الأولاد وكم يصرخون، وكأنهم يريدون التعويض عن كل الصمت والخرس الذي أجبروا عليه أثناء الحصة الدراسية. فلقد كان فعل الأمر “اخرسوا” أكثر الأفعال استعمالاً في المدارس، و بعده يأتي فعل “انقلعوا”.

وها نحن قد انقلعنا، واقتُلعنا من جذورنا فهل باتت أرضكم اليوم أكثر خصباً. هل تنبت فيها جذور جديدة قادرة على تحمل إهاناتكم اليومية؟ هل أصبحتم أكثر تجانساً وتخافون على بعضكم البعض وتحبون بعضكم البعض؟

هنا في المدينة الجديدة، أطفالنا تجانسوا بسرعة غريبة وأصبحوا يشعرون بالفرح. يحبون مدرستهم ومدرسيهم. يتفوقون ويتميزون. لا يشير إليهم أحد بوصفهم غرباء، مع أنهم مختلفون في كل شيء إلا إنسانيتهم. آباؤهم فقراء كانوا أم عاجزون، لا يهم، أغنياء، أميون أو مثقفون لا يهم أيضا، كل ما يهم أنهم أطفال بحاجة لكل الحب والرعاية والتفهم ليغرسوا جذورهم، التي كانت على وشك الجفاف والموت، في أرض خصبة تمنحهم الأمل بحياة جديدة وكريمة.

أطفالنا لم يعرفوا في مدنهم القديمة إلا العبث فلا مزايا لهم إلا إذا كانوا أبناء لأحد ما، وإلا فهم لا يتعدون عدداً إضافياً في مجموع عدد السكان القابل للردم مع ما تم ردمه من أنقاض المدن المسفوحة أمام أعين ساكنيها.

كيف لهم حب من استباحهم وآباءهم من قبلهم. من الذي قطع الحبل السري بين وطنٍ وأبنائه ولم يبقِ إلا على كلمة “الولاء” مقياساً للوطن. وسماء كانت سقفنا يوماً تهاوت حتى ابتلعتنا.. وتناثرنا بين غيومها المكفهرة غضباً وحقداً. وطنٌ عماده واحد قائد يُسبَّحُ بحمدِه والباقي نعاجٌ على مذبحه.

لماذا تعود لي كل تلك الذكريات، والمدينة التي أعيش فيها اليوم من أجمل المدن في العالم؟ هل فقدت الإحساس بالجمال؟ أجل، فكل الأشياء تبدو لي متشابهه. الجبل كالسهل، الوردة كالشوكة، الغيمة كالسحابة وعصفور الدوري كما الغراب!

هل أشتاق لمدينتي المقهورة؟ أجل، فهناك في دمشق، كان لدي حلم، أشتاق له، وأشتاق لمستقبل عملت من أجله سنوات عمري دون أن أدري أن اغتيال الأحلام ممكن في بلد سمح للجميع باستباحته أملاً بالنصر في حرب جوفاء…

“ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج”، يبدو أننا اليوم في وضع معاكس تماما، ولسان حالنا يقول، “كلما ظننا أنها فرجت، استحكمت حلقاتها حتى ضاقت”!

متى سنعترف بالهزيمة التي مُني بها الجميع، معارضة وموالاة؟ يبدو، أن لا أحد مستعد لهذا الاعتراف، حتى آخر شبر من سوريا. فهل سيتحول هدفنا من خلاص سوريا، إلى الخلاص من سوريا وإلى الأبد، بهمة الأعداء والأصدقاء وحتى الأشقاء. ألا تكفينا حربنا مع أنفسنا من أجل سلطة مهزوزة بالأساس ليغرقنا العالم بحرب يخوضها الخصوم على أرضنا؟

هل يستحق تأييدك أو معارضتك لنظام حاكم كل هذا الدم الذي سال؟ وما همُّ الحاكم إن كنا معه أم ضده، هل تستحق كذبة الخلود كل هذا الدمار؟ هل يستحق كرسي الرئاسة أن يجعلنا كلنا ممثلين في مسرحية سريالية دون نهاية؟

لن يكتمل حديثي عن هواجس الغربة والشوق الساذج، فكل يوم أصحو على خبرٍ أسوأ مما قبله. الغارات الإسرائيلية قطعت سلسلة أفكاري وأعادتني للسؤال عن عدوي الأول، هل أنساه لأن من يعاديني اليوم هو من كان يُفترض أن يكون مسؤولاً عن حمايتي؟

ها هو اليوم عدوي الأول، لا يستبيح سماء بلادي فقط بل ويحتفل أيضاً مع من يتبجح بتحريري من استبداد الحاكم، باحتلال القدس من جديد. وعلى وقع ضجيج الاحتفال تذبح الأضاحي وتراق دماء الفلسطينيين الذين يقولون “لا” بمشهدٍ طبق الأصل عن مشهد الأضاحي السورية التي خرجت لتقول “لا”.

حرفان فقط والثمن كل هذه الدماء والأرواح. متى سنبتكر رداً آخر على هذه الـ “لا”؟ ونحن نرى العالم تجتاحه كل يوم مظاهرات الرفض لقرارات الحكومات وللمراسيم الرئاسية، والجماهير تطالب حكامها بالتنحي وتسخر من إنجازاتهم. متى سنتعلم أن لا شيء ثابت في هذه الحياة إلا الحركة إلى الأمام، وأن من لا يستطع التقدم خطوة عليه الاعتراف بالفشل والانسحاب.

ولو عادت بنا الأيام ماذا كنا سنختار، الصمت ومتابعة حياة القهر أم تكرار هذه الـ “لا” والموت في سبيلها رفضاً للمذلة في بلاد ترفض التغيير؟