Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

معتقلة سابقة: طفلة صغيرة شعرت بالخوف بسبب خروجها من سجن عدرا!

ريتا خليل – SY24

عند ذكر اسم أحد السجون أو المعتقلات في سوريا، أول ما يتبادر إلى ذهن السامع جدران عالية وأسلاك شائكة وحراس بوجوه قاتمة وسجناء يقاسون أنواع العذاب المختلفة.

نعم كل ما سبق ذكره صحيح، بل هو جزء ضئيل من الصورة القاتمة لتلك المسالخ البشرية، لكن هذا لا يمنع من وجود حياة داخل تلك الجدران وقصص مختلفة، كما يحدث في الحياة العادية التي يعيشها البشر أينما كانوا.

مجتمع السجن واسمحوا لي أن أدعوه مجتمعاً فهو يشبه المجتمع في نواحٍ عدة، فهو تجمع لفئات عمرية مختلفة ومراتب مجتمعية متنوعة، وإن كان لا يشبه المجتمع الحقيقي من ناحية اقتصاره على جنس واحد من البشر، فكنت أرى سجن مخصص للنساء وآخر مخصص للرجال، وفي هذه النقطة يختلف عن المجتمع الطبيعي الموجود خارج تلك الأسوار العالية.

سجن عدرا المركزي وفي القسم المخصص للنساء حياة تدور فصولها يومياً، بطلاتها سجينات ومعتقلات تم اقتيادهن وسوقهن قصراً ليعشن تلك الظروف وهذه الحياة إن صح تسميتها بالحياة.

بحكم أنني كنت إحدى مواطنات هذا المجتمع لمدة تجاوزت العام عرفت فيها زميلات ونزيلات صرت اعتبرهن في تلك المرحلة مجتمعي الصغير، والبعض تحول ليشغل دور فرد من أسرتي، تشاركنا الوجع والقصص التي نرويها كل منا لديه قصته التي تعود إلى حياة ما قبل السجن، لتنتهي بقصة الاعتقال وهنا نتشارك معظمنا في قصة تتشابه فصولها داخل معتقلات المخابرات، مع اختلاف حظوظ كل واحدة منا حتى انتهى بنا المطاف في هذا “المجتمع العدراوي”.

اليوم وبعد أن غادرت ذاك المجتمع تاركة خلفي أناس كانت بيننا أمور مشتركة كثيراً، وبعد مضي عامان على مغادرتي تلك الأسوار ما زلت استعيد صوراً وأحداثاً كنت شاهدة عليها وعاصرت أبطالها وعرفتهم وخبرتهم، لهذا حسمت أمري وقررت رسم وإعادة تلك الأحداث بقلمي علكم تتعرفون معي إلى ذلك المجتمع وما كان يضمه تيله المانع الممتد على طول جدرانه السوداء العالية.

تيماء أو (توتة) كما كنا نناديها تحبباً ودلعاً، ابنة العام والنصف نشأت في السجن وكان كل ما رأته محصوراً بين جدران المهجع، الذي يضم ما يقارب الأربعين نزيلة أو سجينة سموها ما شئتم.

“توتة” كانت وسيلة إضحاكنا وتسليتنا، كنا نتسابق لحملها وترقيصها ومحاولة إضحاكها وكل منا ترى فيها ابناً أو بنتاً حرمت منه أو أخاً صغيراً فارقته رغماً عنها، وقد غابت ملامحه من ذكراها لكن اسمه وصورته ما زالت عالقة في الأذهان، لتزيد الذكرى ألم الاعتقال، وهذا ما جعل من “توتة” ترسم البسمة لنا، وسط هذا الأسى المتراكم.

حتى توتة شعرت بإحساسها الطفولي الغريزي بمحبتنا لنا وتعلقنا بها، فكانت لا تفرق أحياناً بين إحدانا وبين أمها حتى ولو غابت عنها لساعات، اعتدنا نحن نزيلات المهجع السادس على توتة، تتناقلها الأيدي عند شروق كل شمس، وتعيدها لأمها مع حلول المساء.

وفي يوم باردٍ من شهر آذار استيقظ مهجعنا ولم تكن توتتنا الصغيرة حاضرة كعادتها بضحكاتها الصغيرة وزقزقتها التي تعدل زقزقة العصافير في الصباح. فمع ساعات فجر ذاك اليوم سيقت أم تيماء برفقة ابنتها الصغيرة ليتم عرضها على قاضي الفرد العسكري في محاكم إرهاب النظام المصطنعة، كان صباحاً ثقيلاً حاولنا تمضية الوقت حتى يحين موعد عودة “توتة” برفقة أمها عند ساعات العصر، حان وقت عودة سير السجن (الدورية التي يتم سوقها من مكان إلى آخر)، فرحنا ونحن نترقب بلهفة دخول توتة علينا في أي لحظة وما هي إلا دقائق حتى سمعنا صوتها الصغير الناعم، وهي تتمتم بأحرف نصفها غير مفهوم، تلقفنا دخولها إلى المهجع بسعادة كبيرة، انستنا حتى أن نطمئن من الوالدة عما جرى معها في المحكمة.

عند دخول توتة لاحظت عليها تغيراً جزرياً في تصرفاتها وكأن توتة الأمس غير توتة التي دخلت من باب المهجع، لم تهرع كعادتها لترتمي في أحضاننا، لم تبتسم، بل وقفت بعد أن تجاوزت باب المهجع بثلاث أو أربع خطوات، وقفت مذهولة تطالع وجوهنا وأسرتنا وكأنها تراها للمرة الأولى، أسرعت نحو أمها، ماذا حدث معك وما بها ابنتكِ فهي ليست على عادتها، أجابت الأم: “لم تصدقوا ما حدث معي اليوم، فما إن خرجنا من باب البناء باتجاه السيارة التي سيتم ترحيلنا بها، حتى هرعت توتة فأمسكت بثوبي وعلامات الذهول مخلوطة بالخوف تظهر عليها ولم أملك وسيلة لتهدئتها سوى ابتسامة خفيفة، فكما تعلمين كنت أضع القيود في يدي وسجان يسير معنا”.

وتابعت والدة “تيماء” سرد تفاصيل هذا النهار، ونحن نتحلق حولها ونصغي إلى كل كلمة باهتمام شديد، “لن استطيع وصف ردة فعل توتة عندما جلسنا في مقعد السيارة التي ستقوم بنقلنا، وما أن أدار السائق محركها حتى انبرت توتة تبكي وهي في حضني فهدأت من روعها، وأدركت حينها سبب استغرابها، فهي ما عرفت يوماً سوى مهجعنا الصغير، وما كانت تعلم بوجود حياة غيره في هذا الكون الواسع، انطلقت السيارة وعندها خف اضطراب توتة وراحت تطالع الطريق من نافذة السيارة وتدهش كل ما وقع نظرها على شيء جديد لم تعهده سابقاً، كالأبنية العالية والأشجار على جانبي الطريق والسيارات الكبيرة التي كانت تمر بجانبنا، هذه الدهشة كانت تزداد كلما دخلنا باتجاه قلب المدينة المكتظ بالسيارات والأبنية فكما تعلمون عدرا تقع في منطقة نائية لا أبنية فيها، ولا يوجد فيها ذاك الازدحام والأصوات التي سمعتها توتة للمرة الأولى”.

وذكرت الوالدة وهي تروي تفاصيل يومها المميز والجديد، أن “توتة ظلت على صمتها المطبق وعلامات الدهشة على وجهها طيلة وجودنا أمام القاضي أو في مكان الانتظار تحت درج ذاك المبنى، ونظرات توتة تلاحق كل ما يدور حولها باستغراب شديد وكأنها تريد أن تعلم كل ما يدور حولها دفعة واحدة، خفت ردة فعلها عندما انتصف النهار وأخرجونا باتجاه السيارة لنستقلها في طريق العودة فما أن ركبناها ودار محركها حتى هدأت توتة وكأن بها اعتادت على ركوب السيارة وباتت تعلم ما سيحدث”.

تركت أم توتة تتابع حكايتها وتوجهت نحو الابنة المذهولة واحتضنتها بحب وطبعت قبلة على خدها الصغير فتبسمت بضحكتها المعتادة وارتاحت قليلاً، وعادت إلى سابق عهدنا بها، وبدأت تصف ما شاهدته بلهجة طفولية مملؤة بالاستغراب من عبارات مثل “عنننننننن.. خالتوا بييببب”، ضحك من كان في المهجع على عبارات توتة الصغيرة، وشيئاً فشيئاً عادت توتة إلى حياتها السابقة وهي تزرع زوايا وأسرة المهجع جيئة وذهاباً، لكنني أذكر وقتها أنني طرحت هذا السؤال على نفسي يا ترى كم توتة لا تعلم بوجود كون واسع خارج حدود سجنها وسماءٍ تعلو سقف مهجعها، وأن هناك لون أزرق كبير يسمى السماء غير الأزرق الذي كنا نرتديه كسجينات عندما يتم سوقنا إلى القاضي.