أعلنت شركة مايكروسوفت، أمس الإثنين، إيقاف خدمة “سكايب” بعد أكثر من عقدين من وجودها، إيذاناً بنهاية واحدة من أوائل منصات الاتصال عبر الإنترنت التي غيرت مفهوم المكالمات الصوتية والمرئية.
لكن في سوريا، حيث مرّت البلاد بسنوات الحرب والثورة، لم يكن رحيل “سكايب” مجرد حدث تقني عابر، بل كان بمثابة وداع لشريك درب حمل ذكريات الدموع والضحكات، والانتصارات والخيبات، وربط السوريين ببعضهم وبالعالم الخارجي في لحظات حاسمة من تاريخهم الحديث.
ومع اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس2011، أصبحت سوريا ساحة معركة على كل المستويات: السياسية، الإعلامية، والبشرية. في ظل انقطاع شبكات الاتصالات التقليدية أو رقابة النظام عليها، لجأ الناشطون والمعارضون إلى “سكايب” كمصدر أمان نسبي للتواصل.
وكان التطبيق المنصة الوحيدة التي تتيح إجراء مكالمات صوتية ومرئية مجانية عبر الإنترنت، مما جعله أداة حيوية لنقل الأخبار من المدن السورية المحاصرة إلى العالم الخارجي.
في تلك الفترة، اشتهرت عبارة “كان معنا من سوريا عبر السكايب” في التغطيات الإعلامية الدولية، لتُصبح رمزاً لتجربة السوريين في استخدام التكنولوجيا كوسيلة لمقاومة الصمت.
وكانت غرف المحادثات على “سكايب” مسرحاً لاجتماعات الناشطين، ونقاشات التنسيقيات المحلية، وحتى تنسيق المسيرات والمظاهرات.
أسماء كثيرة لشباب الثورة الأوائل، الذين عرفوا بأسماء حركية مثل “أبو مالك” أو “ليلى حلب”، تصدحت أصواتهم عبر الميكروفونات، ليحولوا التطبيق إلى منصة ثورية فريدة.
ولعب “سكايب” دوراً محورياً في توثيق انتهاكات النظام السوري ونقلها إلى المنظمات الدولية والإعلام. كانت الشهادات الحية من داخل المدن المنكوبة، مثل حمص وداريا ودير الزور، تُنقل عبره مباشرةً إلى القنوات التلفزيونية والصحف العالمية.
وفي ظل غياب مراسلين ميدانيين بسبب الخطر، تحول الناشطون إلى “مراسلين افتراضيين”، يقدّمون التقارير من تحت أنقاض القصف، أو من وسط المظاهرات، مستخدمين كاميرات الهواتف المتصلة بشبكات الإنترنت الضعيفة.
كما كان التطبيق سبيلاً للتنسيق بين الداخل السوري والمنفيين في الخارج، وكانت اجتماعات المعارضة في إسطنبول أو واشنطن تُضمّن مشاركة ممثلين عن التنسيقيات المحلية عبر “سكايب”، مما أعطى صوتاً للشارع الثوري في المحافل الدولية.
ورغم أن قرار مايكروسوفت بإغلاق “سكايب” جاء نتيجة تراجع قاعدته من المستخدمين أمام منافسين مثل “واتساب” و”زوم” و”تيمز”، إلا أن السوريين رأوا في هذا الرحيل فقداناً لجزء من ذاكرتهم الجماعية.
وفي رسالة نشرها ناشطون على مواقع التواصل، قالوا:
“كيف نفسر لجيل جديد ماذا كان يمثل سكايب؟ كيف نقول إن هذه المكالمات كانت حياتنا؟ في لحظات الموت والاعتقال، كان سكايب هو الدليل الوحيد على أننا لا نزال أحياء. كانت المحادثات فيه تُخطط لها كأنها عمليات عسكرية: كلمات مرور، توقيتات دقيقة، وتخفي الأسماء الحقيقية خلف ألقاب حركية. رحل التطبيق، لكنه ترك أثراً لا يمحى في قلوب من عاشوا تلك الأيام”.
لم يكن “سكايب” مجرد أداة عملية، بل كان رابطاً إنسانياً بين العائلات المشتتة،
وفي ظل الحصار، كانت مكالمات الفيديو وسيلة للآباء لرؤية أطفالهم، وللمخطوفين لإرسال رسائلهم الأخيرة قبل اختفائهم.
بعض الناشطين يتذكرون كيف كانت “غرف المحادثات” تتحول أحياناً إلى حلقات دعم نفسي، حيث يتبادل المشاركون الطرائف أو يعزون بعضهم في ضحايا القصف.
ورغم إمكانية انتقال المستخدمين إلى تطبيق “مايكروسوفت تيمز” بنفس بيانات الدخول، يبقى الشعور بأن جزءاً من التاريخ السوري الثوري قد اختُتم.
“تيمز” و”زوم” قد تكون أدوات أكثر تطوراً، لكنها لا تحمل نفس الذكريات المرتبطة بالدموع والصمود.
اليوم، مع إغلاق آخر خادم لـ”سكايب”، يودع السوريون رمزاً من رموز مرحلة لم تُكتب كل قصصها بعد. ربما يبقى الأمل في أن تُحفظ تلك المحادثات والتسجيلات كوثيقة تاريخية، تُذكر الأجيال القادمة كيف حوّل السوريون تطبيقاً للتواصل إلى سلاح مقاومة، ونافذة أمل في زمن الانهيار.