كشفت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في تحقيق استقصائي موسّع عن نشاط ممنهج لشبكات حسابات خارجية تنشط على منصة “إكس” (تويتر سابقاً)، تعمل على نشر خطاب الكراهية وتأجيج الانقسام الطائفي في سوريا، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع الداخلية، وذلك في سياق ما وصفه التحقيق بـ”حرب الروايات الرقمية” عقب سقوط نظام بشار الأسد.
ووفقًا للتحقيق، اعتمد فريق BBC لتقصي الحقائق على تحليل أكثر من 400 ألف منشور من أصل مليوني منشور مرتبطين بالشأن السوري، نشروا على المنصة منذ ديسمبر/كانون الأول 2024، وركزت هذه المنشورات على مهاجمة أو دعم الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
حملات رقمية منسقة مصدرها خارج سوريا
أظهر التحقيق أن 60% من المنشورات الكاذبة أو المضللة التي استهدفت الحكومة السورية الجديدة مصدرها حسابات حُدّد موقعها الجغرافي خارج سوريا، وتحديدًا في العراق، اليمن، لبنان، إيران، تركيا، والسعودية.
وتنوّعت هذه الحملات بين انتقادات حادة واتهامات مختلقة للحكومة، وبين محاولات لتلميع صورة الرئيس الجديد، مما يكشف عن صراع رقمي بين روايات متنافسة تديرها أطراف لها مصالح سياسية في الشأن السوري.
استخدمت هذه الشبكات تكتيكات متعددة تشمل:
- إعادة نشر محتوى قديم وتقديمه باعتباره حدثًا راهنًا؛
- تكرار المنشورات بصيغ متطابقة أو شبه متطابقة؛
- تشغيل حسابات وهمية أو مؤتمتة (روبوتات) تحمل أسماء عشوائية أو مرقّمة مثل “قاصف 1″، “قاصف 2″؛
- النشر المتزامن من عدة حسابات لتضخيم الأثر والوصول؛
- بث محتوى تحريضي ضد مكونات طائفية محددة.
حملات موجهة ضد الحكومة السورية الجديدة
التحقيق كشف عن نشاط مكثّف لحسابات معارضة للرئيس السوري أحمد الشرع، تنشر ادعاءات غير موثوقة تتعلق بمسؤولين حكوميين، وتروّج لروايات مفبركة حول أحداث داخلية. من بين الأمثلة، انتشار خبر كاذب في مارس/آذار عن “إعدام كاهن كنيسة مار إلياس على يد فصائل مسلحة”، حيث أعادت عشرات الحسابات نشر نفس النص والصور خلال ساعة واحدة، قبل أن يتم نفي الحادثة رسميًا من الكنيسة.
كما استخدمت هذه الحسابات مقاطع فيديو قديمة وأُعيد تقديمها على أنها توثق انتهاكات حديثة، مثل مقطع لرجل يدمّر تمثالاً دينياً، تبيّن لاحقًا أنه يعود لعام 2013، رغم انتشاره الواسع بربط زائف بفصائل سورية حالية.
حملات مؤيدة تستخدم الأدوات نفسها
لم تقتصر الحملات على الجانب المعارض للحكومة، إذ كشف التحقيق عن شبكة مؤيدة للرئيس السوري أحمد الشرع، تروّج لصورة إصلاحية له باستخدام عبارات نمطية وتكرار الرسائل، من خلال أكثر من 80 ألف منشور مصدرها حسابات متمركزة في تركيا والسعودية، كما رصد التحقيق نشاطاً مكثفاً لحسابات مناهضة للحكومة تنشر روايات كاذبة وتعيد تدوير محتوى قديم لتأجيج التوتر. التحقيق سلّط الضوء على حملات تحريض ممنهجة استهدفت بشكل خاص الطائفة العلوية.
ورغم اختلاف الاتجاه، إلا أن هذه الحسابات أظهرت نفس أنماط التلاعب الإلكتروني المنسق التي اتبعتها الحسابات المناهضة.
منابر للتضليل وخطر على الاستقرار
الباحث في مختبر DFRLab، رسلان تراد، قال في تعليقه للـBBC إن الفضاء الرقمي السوري بات يعاني من انقسام واستقطاب طائفي حاد، تغذّيه حملات تضليل مدفوعة بأجندات إقليمية تتداخل فيها مصالح إيرانية، إسرائيلية، وتركية، إضافة إلى نشاط بارز للحسابات الروسية.
وأشار إلى أن هذه الحملات الرقمية لا تكتفي بنشر الكراهية، بل تسعى إلى تفكيك المجتمع السوري وإعادة تأطير النقاشات العامة حول الهويات الدينية والطائفية، ما يُضعف دعوات المصالحة الوطنية ويهدد فرص الاستقرار.
خلاصة
يظهر التحقيق أن وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص منصة “إكس”، تحوّلت إلى ساحة حرب معلوماتية حقيقية بشأن مستقبل سوريا، تُستخدم فيها الأدوات الرقمية لإعادة تشكيل الرأي العام، وتوجيه الغضب الطائفي، وتضليل المتابعين محليًا ودوليًا.
ويوجه التحقيق إنذارًا واضحًا حول الدور المتنامي للحملات الرقمية المنسقة في إعادة إنتاج الصراعات السياسية والمجتمعية في مرحلة ما بعد الحرب، وسط غياب آليات فعّالة للرقابة أو المساءلة.