بعد سنوات من القصف والتهجير والحصار، تعود مدينة داريا في ريف دمشق لتصوغ ملامح جديدة لهويتها السياسية والثقافية، في مشهد يعبّر عن إصرار أهلها على استعادة دورهم الريادي، لا سيما في قضايا الفكر والسياسة وبناء الدولة المدنية.
ففي خطوة تعبّر عن هذا التحول، نظّم “معهد مارس للفكر والعلوم السياسية”، بالتعاون مع الإدارة المدنية في داريا، ندوة حوارية تحت عنوان: “السياسة في سورية الجديدة: مدخل وتمهيد”، قدّمها المفكر السوري الدكتور رضوان زيادة، في المركز الثقافي بمدينة داريا.
سلّطت الندوة الضوء على المبادئ الأساسية لبناء نظام ديمقراطي في سوريا الجديدة، كما ناقشت التحديات والإمكانات المطروحة في مرحلة ما بعد رفع العقوبات الأمريكية، إضافة إلى التحولات السياسية والاجتماعية المتوقعة ودور المجتمع المدني في صياغة تلك التحولات.
وفي حديث خاص لـ SY24، أوضح ياسر جمال الدين، مدير المكتب الإعلامي في داريا، أن “عودة الأنشطة الثقافية والسياسية في مدينة داريا، التي كانت معروفة سابقًا بوعيها السياسي ودورها البارز خلال مراحل الثورة السورية، تمثل خطوة هامة نحو استعادة دورها الريادي في المشهد السياسي السوري”. وأكد أن هذه الفعاليات تهدف إلى “تعزيز الوعي السياسي، وتشجيع المشاركة المجتمعية الفعالة، وبناء مجتمع مدني قوي قادر على المساهمة في صنع القرار”.
وتأتي هذه الفعالية ضمن سلسلة من الأنشطة الفكرية والسياسية التي تشهدها المدينة في الآونة الأخيرة، وسط حراك مدني متنامٍ يسعى إلى فتح فضاءات حوارية مفتوحة، تُعزّز ثقافة النقاش وتُعيد الاعتبار للعمل السياسي البنّاء كجزء من الحياة اليومية للمواطن السوري.
داريا قبل وبعد سقوط النظام: تحوّلات جذرية في المشهد المدني
عرفت داريا خلال بدايات الثورة السورية كأحد أبرز معاقل الحراك السلمي، وكانت نموذجًا في التنظيم المدني والتعبير السياسي الواعي، قبل أن تتحوّل إلى مدينة منكوبة جرّاء سنوات من الحصار والقصف والتدمير الممنهج الذي مارسه النظام السوري.
وبعد تهجير سكانها عام 2016، بدت المدينة كأنها طُويت من الخارطة السياسية، إلى أن بدأت الحياة تدبّ فيها من جديد عقب اتفاقات تسوية جزئية، ومع عودة آلاف السكان تدريجيًا، بدأت تنشط مجددًا المبادرات المدنية والفكرية، في محاولة لاستعادة روح داريا المعروفة بتاريخها النضالي ووعيها السياسي العميق.
اليوم، تبدو داريا وكأنها تدخل مرحلة جديدة من التشكّل السياسي والمجتمعي، حيث لا تقتصر العودة على ترميم الأبنية والبنية التحتية، بل تشمل كذلك إعادة إحياء الفكر السياسي الحر، وفتح نقاشات حول مستقبل سوريا السياسي، في ظل ما تشهده البلاد من تحوّلات إقليمية ودولية متسارعة.
هذه الخطوات تعكس رغبة حقيقية من أهالي المدينة في استعادة موقعهم كمكوّن فاعل في الساحة السورية، عبر أدوات مدنية وسلمية، أساسها الوعي والمشاركة والانفتاح على الحوار والتفكير الجماعي في مستقبل أفضل.