تناولت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها أبرز مراحل الحراك الثوري والذاكرة الشفوية والمادية له،
إضافة إلى توثيق عذابات المعتقلين ومراكز الاحتجاز، وإليكم نص التقرير:
شعارات ولافتات ورسومات جدارية تندّد بالدكتاتورية. قذائف مدفعية تحوّلت إلى منحوتات. أدوات تعذيب.
بل وحتى سجن كامل.
مع خروج سوريا من فصل مؤلم في تاريخها الحديث، يسارع البعض داخل البلاد إلى حفظ بقايا انتفاضة شعبية
تحوّلت إلى حرب أهلية دامت قرابة 14 عامًا.
أملهم أن تكون هذه المقتنيات بمثابة تذكير بما قام به المعارضون لمواجهة نظام وحشي، وبالثمن الذي دفعوه،
وكذلك تحذيرًا للمستقبل.
آخرون يهرعون لإنقاذ وثائق وأقراص صلبة وحواسيب من الحكومة المخلوعة،
على أمل أن تساهم هذه الأدلة في تحقيق العدالة والمحاسبة.
يقول معتصم عبد الستار، البالغ من العمر 45 عامًا، والذي كان محتجزًا سابقًا في سجن صيدنايا سيئ السمعة:
“قد يقول البعض إنه علينا نسيان هذه المشاهد، لكنني لا أريد ذلك. يجب أن تبقى ذكرى للأيام القادمة، كي لا تتكرر،
لا في سوريا ولا في أي بلد في العالم”.
في أحد الأيام مؤخرًا، خارج سجن صيدنايا، حيث أُعدم عدد لا يُحصى من المعتقلين، كان عبد الستار يجمع مشانق من حبال متشابكة ككتل من الشعر. حملها إلى داخل السجن الواسع بأجنحته الرطبة وزنزاناته المظلمة، متخيلًا عرضها خلف زجاج.
قال: “أريد أن أحفظ هذه المشانق، فهي لا تُقدّر بثمن”، ثم بدأ يسرد أسماء سجناء يُرجّح أنهم قُتلوا داخل السجن،
قائلاً: “كلهم أُعدموا هنا بهذه”.
عبد الستار، وهو الآن باحث لدى “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”،
وصف كيف كان يُستقبل المعتقلون بالضرب وهم مقيّدو الأيدي ومعصوبو الأعين، ويُعاملون كالحيوانات.
قال إنه يريد حفظ كل ما تبقّى من صيدنايا، من أسماء المعتقلين والرسائل المحفورة على الجدران، إلى الملابس والأحذية المبعثرة، وحتى أوعية الطعام البسيطة.
من ناحية أخرى، يواجه السوريون تاريخًا من التعتيم. صور ولافتات وتماثيل الديكتاتور المخلوع بشار الأسد
ووالده حافظ الأسد لم تلقَ نفس المصير، بل سارع السكان إلى تحطيمها بعد الإطاحة بالنظام في ديسمبر الماضي.
وتتضاعف أهمية الحفاظ على هذا التاريخ بالنسبة للكثير من السوريين بسبب تجاربهم السابقة. ففي عام 1982،
ارتكبت قوات النظام مجزرة في مدينة حماة لقمع انتفاضة بقيادة جماعة الإخوان المسلمين. على مدار عقود،
كان مجرد التحدث عنها يُعرض صاحبَه للاعتقال أو ما هو أسوأ.
تقول سنا يازجي، 55 عامًا، مصممة غرافيك من دمشق: “كسوريين تحت حكم آل الأسد، كان يُمنع علينا أن نتذكّر شيئًا”.
نزحت يازجي إلى لبنان عام 2013 مع عائلتها خشية أن يكونوا مطلوبين، وأسست منظمة “الذاكرة الإبداعية” لتوثيق الشعارات والملصقات والأغاني من الانتفاضة التي بدأت عام 2011 متأثرة بثورات الربيع العربي.
لكن كثيرًا من هذه الذكريات طُمست بالفعل. الرسوم والعبارات التي خُطّت على الجدران وتمثل روح التحدي
والمقاومة مُسحت من قبل قوات النظام. والمفارقة أن شرارة الثورة بدأت بعبارة واحدة كُتبت على جدار مدرسة في درعا
من قِبل مجموعة مراهقين: “إجاك الدور يا دكتور”، وقد أُوقفوا وتعرضوا للتعذيب، ما أشعل فتيل الانتفاضة في عموم سوريا.
ورغم كل ذلك، لا تزال بعض رسائل الغرافيتي مرئية، تُعبّر عن وداع السكان قبل تهجيرهم، أو تحدٍّ كُتب على أنقاض منازلهم.
في دمشق، نُظّم مؤخرًا معرض بعنوان “البداية”، عرض صورًا لملصقات ورسومات كاريكاتيرية من المراحل الأولى من الثورة.
قالت سفانة بقلة، إحدى المنظمات: “الجميع يركّز اليوم على السلاح والتحرير، لكنه نسي كيف بدأ كل شيء: بالمدنية والسلمية”.
من بين أبرز الرموز التي يسعى السوريون للحفاظ عليها، تلك اللافتات التي عُرضت كل يوم جمعة في بلدة كفرنبل، وكانت لافتات ساخرة تلفت الانتباه العالمي.
إحدى اللافتات من عام 2012 قالت: “ليست حربًا أهلية، إنها إبادة. دعونا نموت، لكن لا تكذبوا”، وسيُعرض عدد منها في معرض جديد هذا الأسبوع في دمشق.
لكن تلك اللافتات كادت تضيع في خضم الحرب. ففي مايو 2019، ومع بدء هجوم النظام على إدلب،
اضطر سكان كفرنبل للفرار تحت القصف.
قال عبد الله السلوم، عضو مركز كفرنبل الإعلامي: “اتهمونا بفبركة المظاهرات، وكانوا ينكرون أنها حدثت.
هذه اللافتات دليل حي على التاريخ”.
رغم الخطر الشديد، عاد السلوم مع أحد أصدقائه فجرًا إلى البلدة لاستعادة اللافتات التي كانت مخبأة بأكياس وعلب.
تلقّوا إنذارًا بوجود طيران فوق المنطقة عبر شبكة إنذار مبكر، لكنهم تمكنوا من الفرار باللافتات.
عادوا في اليوم التالي رغم المخاطر، ليجدوا أن المركز الإعلامي تعرّض لقصف جوي وتدمّر بالكامل. لكن اللافتات، المحفوظة تحت لفائف من العشب الصناعي، نجت.
قال السلوم: “من الصعب أن أشرح لماذا كانت اللافتات تستحق أن أخاطر بحياتي، لكن هذه هي ذاكرة الثورة السورية”.