بين مرحلة الطوارئ والاستجابة العاجلة، ومرحلة التنمية وإعادة الإعمار، تقف المنظمات الإنسانية العاملة في سوريا
أمام تحول جوهري، مدفوع بتغير أولويات المجتمع السوري، بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر،
إضافة إلى رفع العقوبات الدولية عن سوريا، ما أدى إلى تغير واضح في توجهات المانحين الدوليين.
هذا التحول، الذي لم يعد مجرد رؤية نظرية، بدأ يأخذ طابعًا عمليًا من خلال برامج التعافي المبكر، وفتح مشاريع مدرّة للدخل، وترميم البنى التحتية، استعدادًا للخروج من واقع الإغاثة إلى بيئة مستقرة ومستدامة.
التحول بدأ… ولكن المساحة ماتزال ضيقة
يرى سارية بيطار المدير التنفيذي لفريق الحياة التطوعي، وهي منظمة سورية غير حكومية تنشط في مجالات الاستجابة والتنمية،
أن للمنظمات غير الحكومية دورًا محوريًا في إنعاش الاقتصاد المحلي داخل سوريا،
من خلال ضخ التمويل عبر فروعها المرخصة إقليميًا ودوليًا، وتنفيذ برامج استجابة ومشاريع “الكاش فور وورك”
والتعافي المبكر.
وقال في تصريح خاص لمنصة سوريا 24 إن هذه التدخلات المالية واللوجستية تشكل رافعة حقيقية للاقتصاد المحلي
في بعض المناطق، لكنها لا تزال محصورة ضمن نطاق جغرافي ضيّق.
وأوضح أن “المشاريع الحالية لا تغطي سوى مساحات محدودة من الجغرافيا السورية،
إذ لا تدخل إلا نسبة صغيرة من التمويل الفعلي إلى المناطق الأشد احتياجًا، ما يجعل أثرها محدودًا رغم أهميتها النوعية”.
وبيّن أن الوضع الإنساني العام لا يزال يتطلب استجابة طارئة في معظم المحافظات،
نظرًا للنقص الحاد في المواد الأساسية، بما في ذلك الغذاء، المستشفيات، الأفران، المواد الأولية،
وانخفاض مستوى دخل الفرد بشكل عام.
وأشار إلى أن المرحلة القادمة تحمل تحولًا تدريجيًا في التوجه العام، قائلًا: “بعد عام تقريبًا،
من المتوقع أن تنتقل المنظمات من منطق الإغاثة المباشرة إلى عمل مؤسساتي تنموي،
يشمل مشاريع صغيرة مدرة للدخل، مراكز تعليمية، دعم لقطاع التعليم والصحة، وتوسيع برامج التعافي المبكر”.
وكشف في حديثه عن خطة تنفيذية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل،
تقوم على إنهاء الوجود في المخيمات خلال ستة أشهر، وإعادة النازحين إلى قراهم قبل حلول فصل الشتاء القادم،
مؤكدًا أن “العمل جارٍ على نقل العائلات من المخيمات وتأمين مصاريف النقل،
سواء من داخل سوريا أو من لبنان، ومن ثم الشروع بترميم البنى التحتية لكل بلدة وقرية”.
وفي السياق نفسه، قالت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل هند قباوات، خلال زيارتها إلى عدد من المخيمات بريف إدلب،
إن الوزارة تعمل على تهيئة الظروف لإعادة الاستقرار لنازحي المخيمات، مشيرة إلى أن الخطط الموضوعة تستهدف إنهاء وجود
الخيام والسلل الإغاثية خلال خمس سنوات كحد أقصى، والانتقال نحو دعم مباشر يعزز الاستقلال الاقتصادي للأسر.
وأضافت أن هذا الانتقال لا يمكن أن يتحقق دون تحقيق استقرار اقتصادي أوسع يشمل رفع الحد الأدنى للأجور والرواتب،
حتى يتمكّن المواطن من العيش بكرامة دون الاعتماد على المساعدات المستمرة.
قراءة اقتصادية: التعافي يفتح الباب أمام التنمية
من جانبه، يرى الدكتور معروف الخلف، رئيس مركز البحوث الاستراتيجية في جامعة دمشق،
أن الاستجابة الإنسانية السريعة التي هيمنت على المشهد خلال السنوات الماضية كانت نتيجة طبيعية لظروف استثنائية
فرضها عدم الاستقرار السياسي والتشظي الاقتصادي، مما استدعى تلبية الحاجات العاجلة للسكان كأولوية،
من خلال الإغاثة المباشرة وتأمين الحد الأدنى من المعيشة.
ويشير خلال حديثه لمنصة سوريا 24 إلى أن “الاقتصاد السوري بدأ يدخل حالة من التحول الديناميكي السريع،
وهو الآن في مرحلة التعافي، ما يعني أن مرحلة التنمية باتت قريبة جدًا من التحقق”.
ويؤكد أن انطلاق المشاريع الاقتصادية الكبرى، خاصة مشاريع الطاقة، سيكون له دور حاسم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني وتهيئة البيئة للاستثمار، وهو ما سيدفع بالمنظمات الإنسانية إلى تعديل أولوياتها باتجاه التنمية طويلة الأمد بدلًا من الاستجابة السريعة.
ويعتقد الخلف أن التعافي الحقيقي لن يتحقق دون إصلاحات اقتصادية وتشريعية تواكب هذا التحول، مؤكدًا على أن “دور المنظمات الإنسانية سيتحول إلى دور منظم وموجّه، بالتكامل مع القطاعين العام والخاص، لدعم القطاعات ذات الأولوية”.
الدول المانحة تغيّر وجهة تمويلها:
في مؤتمر بروكسل التاسع حول سوريا، الذي عُقد في آذار/مارس 2025، تعهد المجتمع الدولي بتقديم 6.3 مليار دولار لدعم الشعب السوري، مع تركيز واضح على برامج التعافي والاستقرار المحلي بدلًا من الإغاثة التقليدية.
وكان من أبرز المساهمين إيطاليا التي أعلنت عن 68 مليون يورو لدعم المستشفيات، وتحسين سلاسل الإمداد الغذائي، وتعزيز البنية التحتية في المناطق المحررة.
هذا التمويل يعكس التحول التدريجي في النظرة الدولية لسوريا من كونها “منطقة كوارث إنسانية”، إلى ساحة يمكن إعادة بنائها بطريقة تنموية إذا توفرت الإرادة المحلية والدولية.
رسائل أممية: لا تنمية بلا تعافٍ
أوضح آدم عبد المولى، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، أن التحول الحقيقي يبدأ من الاستثمار في التعافي، قائلًا: “علينا كمنظمات أن نغادر مرحلة الإغاثة إلى مرحلة البناء، ونعمل على تخفيف القيود، وتسهيل وصول الموارد، وخلق فرص متجددة للاقتصاد المحلي”.
كما أشار غير بيدرسن، المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، إلى أهمية الدعم العربي في تسريع هذا التحول، مؤكدًا أن: “توسيع التمويل التنموي من دول مثل السعودية وقطر وتركيا يحمل مفاتيح واقعية لتحسين مستوى المعيشة، وخلق أرضية سياسية واقتصادية للتعافي الشامل”.
دروس من العراق ورواندا: التحول ليس مستحيلًا
يقدم كل من العراق ورواندا مثالين واضحين على أن التحول من الطوارئ إلى التنمية ممكن إذا اقترن بالتخطيط المحلي والمساءلة والتعاون بين الفاعلين، ففي العراق نجحت، إلى حد ما، مشاريع “إعادة الاستقرار” بتمويل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في تنفيذ آلاف المشاريع الصغيرة، التي أعادت الحياة تدريجيًا إلى مدن كالموصل والرمادي وتكريت.
فيما كانت رواند التجربة الأكثر نضجاً في الاستثمار في النساء والتعليم ومصالحة ما بعد الإبادة الجماعية ما أدى إلى تحويل البلاد من جرح نازف إلى واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا.
سوريا اليوم: في الطريق إلى ما بعد الخيمة
تُجمع هذه المعطيات على أن سوريا تقف اليوم أمام مرحلة مفصلية، فـ الخروج من الخيمة، كما وصفه مدير منظمة “هذه حياتي”، لم يعد مجرد طموح إنساني، بل ضرورة تنموية واستراتيجية لا تحتمل التأجيل.
حيث يؤكد مدير منظمة هذه حياتي في ختام حديثه أنه في حال “استطعنا إنهاء المخيمات، وتأمين عودة العائلات، ثم البدء بترميم البنية التحتية ودعم التعليم وفتح مشاريع صغيرة، سنكون قد بدأنا الخطوة الأولى في طريق التعافي والاستقرار”.