في زاوية صغيرة من منزلها المتواضع في مدينة جرمانا بريف دمشق، تنبعث رائحة الشوكولا البلجيكية ممزوجة بالإصرار والشغف. هناك، بدأت أماني النجاد (26 عاماً)، رحلة استثنائية من التحدي والإبداع، حين قررت تحويل ظروفها كأم شابة إلى فرصة اقتصادية ومشروع منزلي ناجح، ينبض بالطموح والذوق والتمكين.
بين التمريض والأمومة.. حلم الإنتاج لا يموت
بعد تخرجها من كلية التمريض وممارسة المهنة لعدة سنوات، اضطرت أماني إلى التوقف عن العمل الخارجي بعد الزواج وإنجاب طفلها، بسبب غياب بيئة حاضنة تدعم الأمهات العاملات، وصعوبة ترك ابنها في ظل عدم توفر الدعم الأسري الكافي. تقول أماني في حديث خاص لـ”سوريا 24 “: “ما كنت حابة أكون كائن مستهلك، بحب الإنتاج والعمل، وبحب ساعد زوجي كمان، فقررت إني أشتغل من البيت بأي شيء ممكن أبدع فيه”.
ومن هنا انطلقت في رحلة البحث عن فكرة مشروع منزلي يناسب مهاراتها وشغفها، حتى وجدت في صناعة الشوكولا عالمًا ساحرًا واسعًا، يجمع بين الفن والمذاق والإبداع. بدأت بمشاهدة الدروس والتصاميم عبر الإنترنت، ومن ثم أخذت خطواتها الأولى نحو تأسيس مشروعها الصغير بإمكانات متواضعة، ودون رأس مال كبير ولاقت دعماً ومساعدة من زوجها بشكل كبير تقول إنه الداعم الأول لها بكل خطواتها وكان له فضل في نجاح مشروعها وتطويره.
صعوبات البدايات: من القوالب إلى الكهرباء
واجهت أماني العديد من التحديات في بداية مشروعها، كان أولها تأمين القوالب المناسبة لتصميم الشوكولا، حيث تقول: “كان صعب كتير لاقي قوالب حلوة، وخاصة إنه بالمناطق الخاضعة للنظام سابقاً ما في شي متوفر متل ما بدك، وأحياناً ما تلاقي شي بسيط”.
كما اصطدمت بجودة المواد الأولية، فجربت أنواعاً مختلفة من الشوكولا حتى استقرت على نوع بلجيكي خام يوفّره أحد أقربائها من الخارج. لم تقتصر التحديات على المواد، بل امتدت إلى التغليف أيضاً، حيث فشلت في إيجاد شركة تقبل بتصنيع كميات صغيرة من العلب الكرتونية، لتقوم بتصميمها بنفسها داخل منزلها بألوان وخامات اختارتها بعناية.
وتضيف أماني: “الكهربا كمان مشكلة كبيرة، أحيانا بنضطر نوقف الشغل أو نخسر إنتاج لأنه الشوكولا بيتأثر بسرعة بانقطاع التيار.”
التسويق في الظل: من القرايب إلى الإنترنت
لم يكن التسويق سهلاً لشابة لا تمتلك متجراً ولا ميزانية للإعلانات. اعتمدت أماني في البداية على الأصدقاء والعائلة لتذوق منتجاتها، ثم أطلقت صفحات عبر “فيسبوك” و”إنستغرام” لعرض تصاميمها المميزة، وسرعان ما بدأ الناس يتعرفون على أسلوبها المختلف وأذواقها المتقن. “الأشكال اللي عم أشتغلها جديدة، وما في منها كتير هون، وهذا الشي حبب العالم في الشغل، وصار يجيني دعم وتشجيع كتير”، تقول أماني بفخر.
تشير إلى أن جودة الشوكولا التي تقدمها هي من أسرار نجاحها، فهي ترفض استخدام الزيوت المهدرجة أو أي إضافات صناعية، ما يجعل منتجاتها أغلى قليلاً، ولكنها صحية وطبيعية وذات طعم مميز.
التمكين الاقتصادي من قلب البيت
تجسد أماني اليوم نموذجاً لنساء سوريات استطعن رغم الظروف المعقدة أن يصنعن منازلهن مساحة للعمل والإنجاز والدخل المستقل. فهي لا تسهم فقط في تحسين وضعها الاقتصادي وعائلتها، بل تفتح الطريق أمام أخريات لاقتحام سوق العمل المنزلي، الذي بات ملاذاً للكثيرات في ظل انسداد الأفق الوظيفي الرسمي.
“أنا بحاول أخلي الأسعار مناسبة وتنافسية، لأنه بحب الكل يقدر ياكل شوكولا طيبة وصحية، وبنفس الوقت أحقق ربح بسيط يعينني على الاستمرار”، تؤكد أماني، مشيرة إلى أنها رغم ضغوط المنزل والأمومة والعمل، تجد في مشروعها متعةً تعوّض كل التعب، ولفتت إلى أنها أصبحت ملهمة لعدة سيدات وشابات طلبن منها تقديم دورة تعليمية لهن في مجال صنع قوالب الشوكولا وتزيينها لفتح مشاريع مشابهة تساعدهن في الحصول على دخل مادي وسط الظروف الاقتصادية الصعبة.
في مجتمع أنهكته الحروب والتحديات الاقتصادية، تبرز قصص نساء مثل أماني النجاد كضوء في نهاية النفق، يثبت أن الإرادة وحب العمل يمكن أن يصنعا النجاح ، حتى من أبسط الإمكانيات. نجاح أماني هو ليس نجاحاً فردياً فحسب، بل شهادة حيّة على أن التمكين الاقتصادي يبدأ من الإيمان بالذات، ومن ركن صغير في المنزل يمكن أن يولد مشروع كبير.