تتجدد معاناة السكان العائدين من التهجير في قلب الغوطة الشرقية، التي كانت أحد أبرز مسارح الحرب خلال السنوات الماضية، ولكن هذه المرة على هيئة تحدٍّ جديد يتمثل في السكن داخل منازل مدمرة جزئيًا، لا تصلح للإيواء، لكنها تبقى، في نظر أصحابها، أهون من كابوس الإيجارات الفاحشة.
بعد سنوات من التهجير القسري إلى الشمال السوري منذ عام 2018، عاد بسام الشوا، وهو ناشط إنساني من أبناء مدينة دوما، إلى منزله رغم أنه لم يسلم من القصف. وبعين يملؤها الإصرار يقول: “رجعت وسكنت في بيتي المدمر جزئيًا، لأن الإيجار صار فوق الاحتمال. طلبوا مني 150 دولارًا شهريًا، وهذا فوق إمكانياتي تمامًا، فرجعت ورممت البيت بقدر ما أستطيع، حتى لو كان غير آمن”.
تعكس تجربة بسام حال مئات العائلات التي عادت إلى الغوطة بعد أن دفعها ضيق الحال وغلاء المعيشة إلى ترك المخيمات ومناطق النزوح. وما زاد الطين بلة، حسب وصفه، أن البنية التحتية في المنطقة شبه منهارة، والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه شبه معدومة. الأهالي يعتمدون على جهود فردية وتبرعات متفرقة لترميم شبكات الصرف الصحي، وتأمين مياه الشرب، وإزالة الأنقاض التي ما زالت شاهدة على الحرب.
أحمد الحلبي، ناشط صحفي وعضو في مجلس الأعيان في مدينة عربين، في حديثة لسوريا 24 يوضح الصورة أكثر: “80% من المنازل والبنية التحتية تعرضت للتدمير. لا توجد شبكات صرف صحي، ولا كهرباء، ولا هاتف، ولا مياه، والناس تعتمد كليًا على جهودها الذاتية أو مساعدات محدودة من بعض المنظمات”.
ويتابع الحلبي: “معظم منازل العائدين بحاجة إلى إعادة إعمار أو ترميم جزئي على الأقل. ومع ذلك، يضطر الأهالي للسكن فيها رغم الخطورة، لأن البديل هو دفع إيجارات مرتفعة أو العودة مجددًا إلى مناطق النزوح”.
تتنوع التحديات التي تواجه العائدين، بدءًا من غلاء الإيجارات التي تتراوح بين 150 إلى 250 دولارًا شهريًا، مرورًا بارتفاع أسعار مواد البناء واليد العاملة، وصولًا إلى انعدام فرص العمل وانتشار الفقر. هذا الوضع يدفع الأهالي إلى القيام بأعمال ترميم بسيطة جدًا، كتركيب باب أو نافذة، أو بناء جدار من البلوك، بهدف “الستر” لا أكثر.
“الناس عم ترجع، لكن الوضع الخدمي منهار والمنازل متهالكة”، يقول الحلبي بمرارة، مضيفًا: “نحتاج إلى جهود دولية وخطط شاملة. نحن الآن تحت الصفر، نبدأ من العدم تقريبًا، لكن لدينا إرادة للعودة والبناء رغم كل شيء”.
في هذا السياق، يعلق محمد علي، أحد أبناء مدينة دوما لسوريا24: “الأسعار خيالية. حتى مواد البناء مثل الإسمنت والحديد والرمل أصبحت فوق طاقة الناس. أجور العمال مرتفعة أيضًا. الغلاء مسّ كل شيء: الطعام، الكهرباء، الماء، وحتى الإنترنت”.
المشكلة الأكبر، وفق شهادات أهالٍ من الغوطة الشرقية، أن إعادة إعمار المنطقة أو تقديم أي دعم جدي غير متاح في الوقت الحالي، وجهود البلديات بالكاد تتجه نحو إزالة الأنقاض من الطرقات أو إصلاح قنوات الصرف الصحي المتضررة. لا توجد خطط واضحة لإعادة الإعمار، ولا برامج دعم للعائدين، فيما تستمر بعض الوعود الرسمية دون تنفيذ فعلي على الأرض.
تشير تقديرات الأهالي إلى أن نسبة الدمار في بعض المناطق، مثل حرستا وعين ترما وزملكا وجوبر، تتجاوز 70%، بينما تبقى مناطق أخرى، مثل أطراف عربين، مدمرة بالكامل، خصوصًا المحيط الدائري الممتد على نحو 14 كيلومترًا.
رغم هذا المشهد القاتم، فإن الرغبة في العودة والبناء مجددًا ما زالت قوية في نفوس السكان. هم يدركون أنهم أمام طريق طويل مليء بالصعاب، لكنهم لا يريدون أن يبقوا تحت رحمة “تجار العقارات”، ولا أن تظل بيوتهم أطلالًا تحرسها الأشباح.
وسط جهود محلية محدودة وغياب الدعم الدولي، يعيش العائدون إلى الغوطة الشرقية واقعًا معقدًا، تتقاطع فيه أوجاع الحرب مع تحديات المعيشة. وبين منزل مهدَّم وإيجار لا يُحتمل، اختار الناس أن يعودوا إلى ما تبقى من ذكرياتهم وحياتهم القديمة، على أمل أن يأتي يوم يعيد لهم الأمن والسكن والكرامة.