تُعد صناعة صابون الغار من الصناعات التقليدية الراسخة في مدينة حلب، وهي صناعة تعود بجذورها إلى قرون طويلة. نشأت هذه الحرفة في البداية كممارسة منزلية تعتمد على الموارد الطبيعية المحلية، مثل زيت الزيتون وزيت الغار، ثم تطورت في
القرن السابع عشر إلى صناعة منظمة داخل ورش ومصانع تُعرف محليًا بالمصابن.
وقد ساعد الموقع الجغرافي للمدينة، والمناخ المتوسطي، وتوفر المواد الأولية في محيطها، على ازدهار هذا النشاط، الذي لم يزل محافظًا على طابعه اليدوي حتى اليوم.
من بين المصابن العاملة حاليًا، تبرز مصبنة الجبيلي باعتبارها إحدى أقدم المصابن في المدينة. المبنى نفسه يعود عمره إلى أكثر من ثمانمئة عام، وقد تم تحويله إلى مصبنة قبل نحو أربعمئة عام، في الفترة التي شهدت انتقال هذه الصناعة من المنازل إلى الورش.
يدير المصبنة اليوم هشام الجبيلي، ممثل الجيل الثامن من العائلة، التي ما زالت تمارس المهنة بشكل متواصل، شأنها شأن عدد من العائلات الحلبية الأخرى التي توارثت هذه الصناعة لعدة قرون.
ويؤكد الجبيلي لمنصة سوريا 24 أن طرق التصنيع بقيت شبه ثابتة، وأن سر النجاح يكمن في الحفاظ على الأسلوب التقليدي والإنتاج اليدوي، دون إدخال أي مواد كيميائية أو صناعية على تركيبة الصابون.
تشمل العملية الإنتاجية مراحل متعددة تبدأ بطبخ الخليط في مرجل كبير لمدة ثلاثة أيام متواصلة، ثم يُصب في قاعة واسعة ليتماسك، قبل أن يُقطع إلى ألواح ويُختم يدويًا بختم المصبنة.
بعد ذلك، يُترك الصابون في مكان بارد وجاف لمدة تصل إلى ثمانية أشهر حتى يجف تمامًا ويصبح جاهزًا للتسويق. تتكوّن تركيبة الصابون الأساسية من زيت الزيتون وزيت الغار والصودا الكاوية والماء، دون أي إضافات كيميائية.
ويُعتبر المناخ الحلبي، بتقلّباته الموسمية، بحسب الجبيلي، عنصرًا مساعدًا في عملية التصنيع، إذ تساهم برودة الشتاء وحرارة الصيف في تخمير وتجفيف الصابون بشكل طبيعي ومتوازن.
من جهة أخرى، يشير عبد القادر دانيال، وهو مختص بتصنيع الصابون البارد، إلى أن جودة صابون الغار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنوعية الزيوت المستخدمة، ويشرح لمنصة سوريا 24 مراحل العمل قائلاً: “قبل الدخول في عملية التصنيع، تُصفّى الزيوت بعناية لضمان خلوها من الشوائب، ثم تُخلط بدقة على دورات بطيئة، لتأمين تفاعل مستقر ومنضبط بين المكونات. بعد ذلك، يُصب الخليط في قوالب خشبية ويُترك ليتماسك قبل التقطيع والختم”.
في السياق التجاري، يوضح فراس، وهو أحد تجار المنطقة، أن صابون الجبيلي يحظى بسمعة جيدة في السوق المحلي والخارجي بسبب ثبات الجودة واعتماده على نسب مرتفعة من زيت الغار الطبيعي. ويضيف أن النوع الأكثر رواجًا هو النوع الوسيط الذي يتميز بسعر مناسب وجودة عالية، ما يجعله في متناول فئات واسعة من المستهلكين.
تجسد تجربة مصبنة الجبيلي مثالًا حيًا على قدرة الصناعات التقليدية على الاستمرار والتأقلم رغم الظروف الاقتصادية المتغيرة، بفضل التمسك بالمعايير الحرفية الأصيلة، واعتمادها على موارد محلية وخبرة متراكمة عبر الأجيال.
وفي وقت تتزايد فيه الحاجة عالميًا إلى المنتجات الطبيعية، تبرز صناعة صابون الغار في حلب كأحد النماذج التي تجمع بين الأصالة والقيمة المضافة، وتستحق المزيد من الدعم والتوثيق.