أم محمد.. أرملة الحرب التي دفنت أبنائها الخمسة في الذاكرة وتربّي أحفادها

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص - سوريا 24

في مدينة إزرع بريف درعا، تقيم “أم محمد” في منزل مهدّم، لا يحمل من ملامح الحياة إلا صور أبنائها على الجدران، وحفيدين صغيرين يحاولان فهم العالم من بين شقوق الجدران والذكريات المنسية. هي أرملة الحرب، وأم لخمسة شبّان قضوا بين الاعتقال والانشقاق والموت، وامرأة لا تزال تتمسك بخيط أخير من الحياة في بيت يعود إليها وحيدًا، كلما عاد السكون إلى المدينة.

منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي في سوريا، شارك أبناء “أم محمد” في المظاهرات، وأدخلوا الخبز إلى درعا المحاصرة. كان أحدهم، أسامة، ضابطًا في المخابرات الجوية، لكنه اختار الانشقاق في ربيع 2011. أخفى قراره عن عائلته لحمايتهم، وبدأ بمحاولة تأمين انشقاقات لعناصر آخرين. في منتصف إحدى هذه المهمات، قُتل في كمين نصبته له قوات النظام أثناء وجوده في محافظة السويداء.

لاحقًا، اعتُقل شقيقه “محمود” بتهمة ملفقة باغتيال مسؤول أمني، وجرى تحويله إلى سجن صيدنايا، حيث قُتل دون محاكمة. وبعدها بأشهر، داهمت قوات النظام منزل العائلة واعتقلت ثلاثة من الإخوة: محمد، أحمد، وعمار، أصغرهم سنًا. ومنذ ذلك الحين، لم يُعرف عنهم شيء، حتى تسلّمت العائلة لاحقًا شهادات وفاتهم.

تحت الضغط الأمني، نُقلت نساء العائلة مع الأطفال والأب العجوز إلى الأردن. هناك، لم يحتمل الوالد فداحة الفقد، فتوفي بعد ثلاثة أشهر فقط من وصوله، كما تقول أم محمد: “كان يردّد دائمًا: عندي ستة أولاد، وما في واحد منهم يدفني إذا متّ”.

ومع تغير المعادلة العسكرية وسقوط النظام في درعا، عادت “أم محمد” إلى منزلها المدمر، وحيدة إلا من حفيدين تخلّت عنهما والدتهما بعد استشهاد زوجها، أحد أبناء أم محمد. في هذا المنزل، بدأت مأساة أخرى، حين انفجر مقذوف غير منفجر من مخلفات الحرب بالقرب من الطفل الأصغر، فخلف إصابات خطيرة في جسده، وأضرارًا كبيرة في أصابع يده، ما يستدعي عدة عمليات جراحية عاجلة، لا تتوفر في ظل ضعف الرعاية الطبية وغياب الإمكانيات.

الطفلان لا يعرفان والدهما ولا أعمامهما إلا من خلال صور قديمة تظهر على شاشة الهاتف. ينظران إليها بذهول، كمن يقرأ قصة خيالية، لكن الفارق الوحيد أن النهاية الحزينة حدثت بالفعل، وما يزالان يعيشان داخلها.

“أم محمد” لا تسرد قصتها للبكاء، بل لأنها تعبّر عن مئات الأمهات اللواتي خسرن أبناءهن في الحرب، وتكفّلن برعاية أيتام في ظل غياب الدولة، وتجاهل العالم.
“ما كنت بعرف إن ابني منشق إلا بعد 4 شهور”، تقول أم محمد بصوت خافت، وتضيف: “سمعنا إنه شارك بتحرير مطار الثعلة، ومن بعدها صارت المداهمات الأمنية تتكرر، واعتقلوا محمود، وبعده الباقي. بعد المجزرة، ما عاد حدا منهم رجع” اليوم، لا تملك “أم محمد” سوى حفيدين وصور باهتة على الجدران، وتنتظر من يلتفت إلى قصتها قبل أن تُطوى في صمت الحرب.

في وجه الركام والفقد، تمثل “أم محمد” صورة حيّة لآلاف النساء السوريات اللواتي دفعن ثمنًا باهظًا في رحلة المطالبة بالحرية والكرامة. لم تكن وحدها من ودّعت أبناءها، ولم تكن آخر من تحمّل عبء تربية الأيتام وسط الصمت والخذلان، لكنها تروي بصبرها حكاية وطن جُرّد من أبنائه، وأمهات ظللن واقفات على الأطلال، يحملن في عيونهن وجعًا لا يُمحى، وإيمانًا بأن الثورة لم تكن خطأ، بل اختبارًا قاسيًا للكرامة.

مقالات ذات صلة