تُشكّل صناعة “المونة” الصيفية في دير الزور واحدة من أبرز العادات التي لا تزال راسخة في وجدان المجتمع المحلي، لا سيما لدى النساء، اللواتي يعتبرن هذه العادة موروثًا ثقافيًا متوارثًا عبر الأجيال، يجسد روح العمل والاعتماد على الذات، ويؤسس لنمط غذائي شتوي يعتمد على ما يُنتَج ويُحفَظ في شهور الصيف.
مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، تبدأ سيدات دير الزور، وخصوصًا في الريف، رحلة إعداد المونة، التي تشمل أصنافًا متعددة من الأغذية مثل الجبنة البلدية، المخللات، المربيات، المكدوس، دبس الفليفلة، والزيتون المتبل، إلى جانب البازلاء والملوخية والفول المجمد.
ويتميّز كل صنف من هذه الأصناف بطقوس تحضيره الخاصة، التي تحرص النساء على نقلها كما ورثنها عن الجدات.
الحر وانقطاع الكهرباء: تحديات تُهدد العادة القديمة
رغم عمق هذه العادة وجذورها، تواجه المرأة الديرية اليوم تحديات قاسية فرضتها الظروف الاقتصادية والمعيشية، أبرزها الانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي ودرجات الحرارة المرتفعة، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على سلامة حفظ المواد الغذائية، وخاصة تلك التي تعتمد على التبريد.
“بدأت كما في كل عام بتحضير الجبنة والمخللات ودبس الفليفلة”، تقول جميلة صبري الحميد، وهي سيدة من ريف دير الزور.
وتتابع في حديثها لمنصة سوريا ٢٤: “لكن بسبب الحرارة الشديدة وانقطاع الكهرباء، تلفت كميات كبيرة من البازلاء والفول واضطررت إلى رميها للحيوانات، وهو أمر محزن جدًا، خاصة مع ارتفاع أسعار الخضروات”.
تضيف جميلة: “المونة ليست مجرد وسيلة اقتصادية، بل عادة اجتماعية وركيزة من ركائز حياتنا الديرية، وهي مرتبطة ارتباطًا وجدانيًا بثقافتنا وذاكرتنا الجمعية”.
براعة متوارثة في إعداد المونة: الضغط النفسي حاضر
من جهتها، تؤكد زهرة العبد، وهي واحدة من النساء البارعات في صناعة المربيات، أن صناعة المونة تمثل جانبًا من الفخر المحلي والمهارة الشخصية، قائلة: “أمتلك خبرة طويلة في إعداد المربيات، وأدرك تمامًا أن بعض أنواعها تحتاج إلى تبريد سريع، لذلك أستخدم أواني صغيرة أو فخارية لتساعدني في الحفظ. لكن الانقطاعات الكهربائية تشكل ضغطًا نفسيًا كبيرًا وتُهدد كل الجهد المبذول”.
وترى زهرة في حديثها لمنصة سوريا ٢٤ أن هذه الحرفة ليست مجرد إعداد للطعام، بل “فن يعبّر عن الهوية المحلية، ويجسد الترابط الاجتماعي بين النساء، حيث تتبادل السيدات الخبرات والمهارات في تحضير المواد المختلفة، وتتنافسن في جودة الطعم والنكهة”.
موروث مهدد بالاندثار
ومع ارتفاع تكاليف تشغيل المولدات الكهربائية، وعدم توفر البدائل المناسبة، تبدو صناعة المونة اليوم على مفترق طرق، فإما الحفاظ على هذه العادة العريقة بما تمثله من إرث ثقافي واجتماعي، أو تراجعها أمام التحديات المعاصرة.
وتختتم زهرة حديثها بالقول: “حين تُجبر المرأة على رمي ما صنعته بيديها طوال أيام، لا تكون الخسارة مادية فقط، بل نفسية ومعنوية أيضًا. المونة بالنسبة لنا ليست طعامًا يُخزن فحسب، بل قطعة من ذاكرتنا المتجذرة، وتعبير عن قيمنا وحياتنا الديرية”.