لا مساءلة في دير الزور: نفوذ عشائري يتمدّد واحتجاجات صامتة تُقمع في الظل

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص – سوريا 24

في حادثة أثارت قلقًا واسعًا بين أهالي دير الزور، أفادت مصادر خاصة لـ”سوريا 24” بأن جهاز الأمن العام في المدينة اعتقل منذ أيام الشاب مصطفى المنديل، أحد أبناء المدينة، على خلفية منشور عبر صفحته الشخصية على فيسبوك، انتقد فيه ما وصفه بـ”الهيمنة العشائرية على الإدارة المحلية والأمنية والعسكرية”.

ووفق المصادر ذاتها، فإن عناصر تابعة للجهاز اقتحمت منزل ذويه واعتقلته دون مذكرة قضائية، ولا يزال مصيره مجهولًا حتى لحظة إعداد هذا التقرير. ورغم المناشدات العائلية والمطالب الحقوقية، ترفض الجهات الأمنية الإدلاء بأي تصريح رسمي، ما يعكس استمرار ممارسات الإخفاء القسري كوسيلة لقمع الأصوات الناقدة.

نفوذ العشائر: سلطة موازية تتجاوز الدولة

تشهد دير الزور منذ سقوط النظام تمددًا متصاعدًا لنفوذ أبناء العشائر والريف، وخاصة من بلدة الشحيل. هذا النفوذ لا يقتصر على التمثيل المجتمعي، بل بات يمسك بمفاصل الإدارة المدنية ويخترق المؤسسات العسكرية والأمنية.

وتُتَّهم هذه الفئات بفرض شخصيات محسوبة عليها في مناصب حساسة، دون اعتبار للكفاءة أو التوازن، مستفيدة من الولاءات السابقة لعلاقاتها المرتبطة بالهيئة في إدلب.

وأكدت مصادر  من دير الزور لـ”سوريا 24” فضلت عدم التصريح باسمها  لقد تم جلب نمطًا إداريًا يعتمد على التحاصص والمحسوبيات، ما أدى إلى تفكك مفهوم الدولة، وتحول أجهزة الحكم إلى واجهة شكلية لصالح “سلطة غير رسمية” متغوّلة.

محاصرة الأصوات المعارضة: من السلطة ومن محيطها

تتألف السلطة المحلية في دير الزور من شبكة معقدة من القرابة والمحسوبيات، حيث يعارض معظم المسؤولين، ومعهم دوائرهم ومحيطهم، أي اعتراض على هذا الخلل البنيوي في السلطة.

كل من يجرؤ على انتقاد التغلغل العشائري والفساد المرافق له، يتعرض لهجوم ممنهج من مسؤولي السلطة وناشطين محسوبين عليهم، يعملون على محاصرة الأصوات المعارضة بغض النظر عن شرعيتها.

ويصف بعض الناشطين هذه الحملات بأنها هجوم ممنهج من “المنصورين الشرعيين”، أي من يتمتعون بنفوذ رسمي وقبلي متشابك، يستخدمون كل الوسائل للحفاظ على مصالحهم، بما في ذلك تشويه سمعة المنتقدين واتهامهم باتهامات واهية.

من ينتقد يُخوَّن: العنصرية كفزّاعة

اللافت أن الأصوات التي تعترض على هذا التمدد العشائري، لا سيما داخل أجهزة الدولة، تُواجه باتهامات جاهزة. فكل من ينتقد المحسوبيات بوصفها أساسًا لتعيين المسؤولين، يُتَّهم بممارسة “عنصرية ضد أبناء العشائر”، وخصوصًا من أبناء الريف الشرقي.

هذا الاستخدام السياسي للهُوية الاجتماعية يحوّل النقاش حول الكفاءة والمساءلة إلى صراع هويات مزيف، يراد منه نزع الشرعية عن أي معارضة حقيقية للفساد أو الإقصاء. وهو ما يكرّس الانقسام المجتمعي بدلًا من بناء دولة قائمة على المساواة والعدالة.

سلوك متعالٍ… إرث السلطة السابقة لم يمت

ما يُفاقم التوتر في المدينة هو السلوك الفوقي لبعض العناصر الأمنية والمسؤولين المحليين، الذين أعادوا إنتاج عقلية الاستعلاء التي مارستها أجهزة السلطة المركزية قبل الثورة، لكن هذه المرة بزيّ جديد، وغطاء عشائري أو فصائلي.

يقول أحد الناشطين المحليين، ممن فضّلوا عدم الكشف عن اسمهم لأسباب أمنية:

“الناس لم يعودوا يحتملون. كل شيء قائم على الولاء، لا قانون ولا عدالة. من له واسطة فوق الكل، ومن لا يملك، يُسحق تحت أقدام بيروقراطية لا تشبه مؤسسات الدولة.”

وبحسب شهادات محلية، فإن أبناء المدينة الأصليين يشعرون بالتهميش، بعدما باتت القرارات تُتخذ من خارج المدينة، بل ومن خارج منطق المؤسسات. ويتحدث البعض عن أن عناصر الأمن والعسكر المنتشرين في الشوارع باتوا مصدر توتر دائم، بسبب كثرة التدخلات، والإهانات، والاحتكاك مع المدنيين، في بيئة لم تعتد على هذا النوع من التحكم المباشر.

احتجاجات صامتة ومبادرات خجولة

ورغم أن التعبير العلني بات محفوفًا بالمخاطر، إلا أن الاحتقان الشعبي يتصاعد. سبق اعتقال مصطفى المنديل تحركات شبابية عفوية ومبادرات محلية قادها ناشطون سابقون، في محاولة للتعبير عن الرفض الشعبي لهذا الواقع المشوَّه.

إحدى هذه المبادرات دعت إلى الاحتجاج السلمي. لم تكن تلك التحركات نتيجة تحريض سياسي منظم، بل جاءت نتيجة مباشرة لما وصفه أحد الأهالي بـ”الاختناق اليومي”، بسبب نقص الخدمات، وغياب الخبز، وسلوك السلطة الذي يعيد أخطاء الماضي بأدوات مختلفة.

دير الزور بين سلطتين

في وقت يُفترض أن تكون المرحلة الحالية مدخلًا لبناء مؤسسات مدنية عادلة، تجد مدينة دير الزور نفسها أسيرة سلطتين: سلطة أمنية تدير الأمور بعقلية القبضة الحديدية، وسلطة عشائرية فرضت نفسها على مفاصل القرار دون ضوابط أو رقابة.

وبينما تُخنق الأصوات المطالِبة بدولة قانون، تُستخدم تهم “العنصرية ضد الريف” كسلاح لإسكات أي دعوة للإصلاح أو محاسبة.

اعتقال مصطفى المنديل ليس حادثة فردية، بل مؤشر على تآكل الحريات العامة، واستمرار سياسة “إسكات الصوت الآخر” في بيئة تعاني أصلًا من هشاشة اقتصادية واجتماعية وأمنية.

ويبقى السؤال: إلى متى ستظل دير الزور رهينة للصراعات غير المعلنة؟ ومتى تبدأ العدالة بالكلام بدلًا من الولاءات؟

مقالات ذات صلة