في قرية أرينبة الواقعة في أقصى جنوب ريف إدلب، كما في قرى معرة حرمة والشيخ مصطفى وسواها من البلدات المجاورة، لا تزال الحياة معلقة بين ركام المنازل وأمل العائدين. هنا، في هذه المناطق المنسية بفعل الحرب، تكاد تختفي مقومات البقاء: المدارس مدمرة، المساجد موصدة إلا من بضعة مصلّين، والمياه شحيحة تُجلب بصهاريج بأسعار تفوق قدرة الأهالي المنهكين من سنوات النزوح.
العودة إلى العدم
الناشط الإعلامي رضوان الناصيف، أحد أبناء قرية أرينبة، يصف لحظة عودته بأنها صدمة. يقول:
“بينما كنت أسير في طرقات قريتي، شعرت أنني غريب فيها. صدمت من حجم الدمار، وصدمة أكبر من قسوة الواقع على الناس الذين عادوا، يحملون على أكتافهم حنينهم وأحلامهم، ليصطدموا بواقع يحتاج إلى معجزة”.
الركام يملأ الشوارع، والمنازل تحوّلت إلى هياكل بلا روح، تحتاج إلى إمكانيات ضخمة لإعادة ترميم غرفة واحدة فقط تصلح للعيش. أما المياه، فهي أزمة يومية، بئران فقط يخدمان القرى المحيطة بأكملها، والصهريج الواحد يقطع نحو خمسة كيلومترات لتعبئته، ثم يُباع بثمن لا يُطاق في ظل الانهيار الاقتصادي وتردي الأوضاع.
من خيمة إلى أخرى
في مشهد مؤلم، أقام أبو إبراهيم، أحد العائدين، خيمته أمام أنقاض منزله المدمر، محاولًا التأقلم مع واقع لم يتغير كثيرًا عن واقع المخيمات. يقول في حديثه إلى منصة سوريا 24:”رجعنا لنعيش وسط الردم. أقمنا خيامًا داخل البيوت المهدمة، أنا وجاري وغيرنا كثيرون. الناس خرجت من خيمة لتجد نفسها في خيمة جديدة، ولكن وسط الدمار، بلا خدمات، بلا ماء، بلا كهرباء، ولا حتى جامع نلجأ إليه”.
يشير أبو إبراهيم إلى أن أقرب بئر ماء يشغله الأهالي بجهود شخصية، وفي ظل غياب دعم المؤسسات أو الجهات الحكومية، ترتفع كلفة تعبئة الصهاريج بشكل يومي، ما يجعل تأمين المياه تحديًا دائمًا.
“يا ليت الدولة أو المنظمات تشغّل الآبار القديمة، فثمن الصهريج اليوم بلغ 400 أو 500 ليرة تركية، والناس ليس لديها شيء. خمس سنوات في المخيمات، ورجعنا على الصفر”، يضيف بأسى.
أنقاض الذاكرة والتاريخ
ورغم الدمار الهائل، يصرّ أهالي أرينبة على التمسك بأملٍ قديم بالعودة، لا كحنين فقط، بل كفعل إرادة. القرية التي كانت هادئة وجميلة في فصولها الأربعة، تحوّلت إلى أطلال، لكنها لا تزال تحتفظ بشواهد على ماضيها.
في شمال القرية، ما تزال آثار يقال إنها تعود لعهد “مملكة أرينبة”، منها قبر يُعتقد أنه للملكة، محفور في مغارتين، ويعلوه تابوت حجري. كما تشتهر المنطقة المحيطة بأودية طبيعية مثل وادي البطم، وادي الغزلان، ووادي طائر الشوح.
ومن الأساطير المتداولة بين سكان القرية، وجود “جبّ من نحاس” لا يعرف مكانه إلا قلّة من كبار السن، لم يبوحوا بسرّه لأحد حتى اليوم، وكأنه بئر منسية لأحلام معلّقة بين الأرض والذاكرة.
العودة وحدها لا تكفي
اليوم، يواجه العائدون إلى أرينبة وأمثالها من قرى جبل الزاوية واقعًا يفوق طاقاتهم. ورغم بساطة مطالبهم في توفير مياه نظيفة، وسكن آمن، ومدرسة لأطفالهم، إلا أن استجابة الجهات المسؤولة محدودة. إذ يوجه الأهالي دعوة مفتوحة، وربما أخيرة، للمنظمات الإنسانية والمؤسسات المعنية، للنظر بجدية إلى احتياجات آلاف الأسر التي عادت بملء قلوبها، لكنها لم تجد ما يسند خطاها.