تعود صناعة قمر الدين، واحدة من أعرق الصناعات الغذائية التقليدية في الغوطة الشرقية، إلى واجهة النشاط الاقتصادي المحلي هذا العام، مدفوعة بموسم وفير من المشمش، وتحسّن في ظروف الإنتاج، بعد سنوات من التضييق والصعوبات التي فرضها نظام الأسد قبل تحرير المنطقة.
فهذا المنتج، الذي لطالما اقترن اسمه بالغوطة، وبات علامة مميزة على الموائد الرمضانية داخل سوريا وخارجها، لا يزال يُصنع بأساليب يدوية تقليدية تحفظ نكهته الأصلية وتختزل ذاكرة أجيال من الحرفيين.
صناعة يدوية تبدأ من البساتين وتنتهي في الأسواق
يُستخرج قمر الدين من ثمار المشمش الناضجة، التي تُقطف في موسم قصير خلال الصيف، ثم تُغسل وتُصفى وتُفرد على ألواح خشبية مدهونة بزيت الزيتون، لتُجفف تحت الشمس أيامًا عدة، قبل أن تُقطّع وتُغلّف وتُطرح في الأسواق.
ورغم ظهور تقنيات حديثة، لا تزال أغلب ورش الغوطة تحافظ على الطريقة التقليدية التي تمنح قمر الدين المحلي نكهته المميزة، مقارنة بالأنواع التجارية المنتجة آليًا. فكل لوح قمر الدين هو خلاصة تعب يدوي يمتد لأيام، لكنه يحمل نكهة البستان والبيت معًا.
صعوبات الماضي بدأت تتلاشى
عاطف سكر، أحد أبناء مدينة عربين وصاحب معمل لصناعة قمر الدين، يقول لمنصة سوريا 24 إن هذه المهنة متوارثة في عائلته منذ أكثر من 35 عامًا. ويروي كيف واجهت الصناعة صعوبات كبيرة في فترة سيطرة النظام، لا سيما في الحصول على المواد الأساسية كالنكهات ومادة الجلوكوز، حيث كان يُطلب منه الحصول على موافقة أمنية أو دفع رشاوى للسماح بإدخالها.
ويتابع: “كنا نضطر لمراجعة فروع الأمن فقط لإدخال مادة الجلوكوز، ومع ذلك كنا نُبتز ماديًا، وهذا رفع التكاليف كثيرًا. أما اليوم، بعد التحرير، فالأمور تغيّرت بشكل كبير. تأمين المواد صار أسهل، والتكاليف انخفضت، وصرنا نوفر على أنفسنا دفع مبالغ في كل مرحلة”.
ويضيف بفخر: “كنت قد أنشأت معملي سابقًا في منطقة الحميرة بدير عطية أثناء حصار الغوطة، أما اليوم فأنا أستعد لإعادة افتتاح المعمل في مدينتي عربين من جديد. الحمد لله، هناك تفاؤل كبير بالمستقبل، والناس عادت تنظر إلى هذه المهنة كفرصة حقيقية للرزق”.
موسم وفير… وتجارة رابحة
يُجمع المزارعون في الغوطة الشرقية هذا العام على أن إنتاج المشمش كان وفيرًا، ما أنعش حركة تصنيع قمر الدين، وخفف من الاعتماد على ثمار المناطق الأخرى. ونتيجة انخفاض تكاليف التصنيع مقارنة بالسنوات السابقة، عاد كثير من أصحاب الورش إلى الإنتاج بعد توقف قسري فرضته الحرب والحصار وتضخم الأسعار.
يصل سعر اللوح الواحد من قمر الدين حاليًا إلى ما بين 15 و25 ألف ليرة سورية، بحسب الجودة والوزن، وهو سعر “معقول” حسب عاطف سكر، ويسمح بهامش ربح بسيط، لكنه أفضل من العزوف عن العمل. ويضيف: “هناك إقبال جيد على المنتج المحلي، خصوصًا مع بدء التجار في شراء الكميات من الآن لتسويقها قبيل رمضان”.
الغوطة… الاسم الذي صنع شهرة قمر الدين
لطالما كانت الغوطة الشرقية، وتحديدًا مدنها الزراعية مثل عربين، من أشهر مناطق إنتاج قمر الدين في سوريا. هذه الشهرة لم تأتِ من فراغ، بل من جودة ثمار المشمش المزروعة في تربة خصبة ومناخ ملائم، إلى جانب الخبرات الحرفية المتوارثة في طهي الثمار وتجفيفها وتغليفها.
ويقول عاطف سكر إن “اسم قمر الدين الغوطة كان معروفًا في الأسواق اللبنانية والخليجية قبل الحرب، ويُعد من أجود الأنواع. واليوم، مع تحسن الوضع الأمني والإنتاجي، يمكننا إعادة بناء هذه السمعة، والعودة تدريجيًا إلى الأسواق”.
وفي ظل المساعي لإحياء الزراعة والصناعات الغذائية المحلية، يأمل العاملون في هذه الحرفة أن تساهم عودة قمر الدين إلى الأسواق في دعم الاقتصاد المحلي، وفتح فرص عمل، والحفاظ على تراث غذائي لطالما شكّل جزءًا من هوية الغوطة.