في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، عاد الحديث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق تطبيع بين سوريا وإسرائيل ليفرض نفسه على جدول الأعمال السياسي.
جاء ذلك عقب تصريحات مثيرة أطلقها كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توماس باراك، التي أشارت ضمنيًا إلى أن الباب قد يكون مفتوحًا أمام مثل هذا الاتفاق.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل هذه المرة مختلفة؟ وهل تتوفر الشروط الموضوعية للتوصل إلى اتفاق تطبيع بين البلدين اللذين لم يشهد التاريخ الحديث سوى القليل من لحظات التواصل المباشر بينهما؟
ترمب ونتنياهو وباراك: من يُحرك المياه الراكدة؟
وألمح ترمب مؤخرًا في حديثٍ لـ Fox News قائلاً: “لا أعلم إن كانت الحكومة في سوريا ستوقّع اتفاق تطبيع مع إسرائيل، لكني رفعت العقوبات عنها، وإذا نجحت سوريا في التحلي بالسلام، سنرفع المزيد من العقوبات التي ستحدث فرقًا”.
بدوره، قال نتنياهو: “سوريا لديها فرصة لتحقيق الاستقرار، كما أن ترمب أتاح للسوريين فرصة الاتجاه نحو السلام والاستقرار”، مضيفًا أن “دولًا جديدة سوف تنضم إلى الاتفاقيات الإبراهيمية”.
أما المبعوث الأمريكي توماس باراك، فقد ذكر أن “الحوار بين سوريا وإسرائيل بدأ، والجميع يسرع للتوصل إلى اتفاق”.
هذه التصريحات، وإن جاءت من شخصيات أمريكية وإسرائيلية ذات وزن، إلا أنها تأتي في سياق إعادة قراءة جديدة للواقع السوري والإقليمي، خاصة مع تغير موازين القوى وتراجع الدور الروسي والنفوذ الإيراني في بعض المناطق، ما خلق فراغًا استغلته الإدارة الأمريكية لتقديم نفسها كفاعل حاسم في أي تسوية محتملة.
هل يُمكن تحقيق تطبيع حقيقي؟
وفي هذا الصدد، قال محمد ياسين نجار، وزير سابق في الحكومة المؤقتة التابعة لائتلاف المعارضة السورية: “إن اتفاق التطبيع بين سوريا وإسرائيل ليس مستحيلاً في ظل الظروف الحالية، لكنه يتطلب من القيادة السورية الجديدة حنكة استراتيجية فائقة، وفهمًا عميقًا للعقلية الإسرائيلية، عبر خبراء ومستشارين سوريين وعرب، وقدرة على توحيد الجبهة الداخلية، مع الاستفادة من التقاطع مع المصالح الأمريكية والإقليمية بذكاء”.
وأضاف نجار في حديثٍ لمنصة سوريا ٢٤: “يجب أن تكون القيادة السورية مستعدة لمفاوضات شاقة ذات نفس طويل، وأن تلتزم بمبادئها الأساسية مع إظهار المرونة التكتيكية، لضمان أن أي اتفاق يخدم المصالح الوطنية العليا ويساهم في بناء مستقبل مستقر ومزدهر”.
ووضع نجار أسسًا أساسية لأي اتفاق محتمل:
* اتفاق “أرض مقابل أمن” معقد: لا يمكن تصور تسوية شاملة دون حل واضح لقضية الجولان.
* قضية المياه ستكون محورية: كونها عنصرًا استراتيجيًا يمس الأمن القومي لكلا البلدين.
* تطبيع تدريجي ومحدود: لن يأخذ شكل اعتراف كامل، بل خطوات عملية متسلسلة.
* تأجيل القضايا الشائكة: مثل ملف اللاجئين الفلسطينيين، وحق العودة، ومسألة القدس.
وشدد نجار على أن الفاعل الرئيسي في أي اتفاق سيكون الولايات المتحدة بالتنسيق مع دول الخليج، التي بدأت تلعب دورًا أكبر في دفع بعض الملفات نحو الحل.
الواقع المعقد والفرص المتاحة
وقال الصحفي باسل المحمد: “الحديث عن إمكانية تطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل لم يعد مجرد تكهنات أو طرحًا هامشيًا، بل بات يُطرح على طاولة النقاش السياسي بجدية متزايدة، خاصة بعد التصريحات الأخيرة التي صدرت عن شخصيات أمريكية وإسرائيلية رفيعة”.
وأوضح في حديثٍ لمنصة سوريا ٢٤ أن: “هذه التصريحات لم تأتِ من فراغ، بل تنطلق من قراءة جديدة للواقع السوري، وللتوازنات الإقليمية التي تغيّرت بشكل كبير منذ نهاية عام 2024”.
ورغم ذلك، أكد المحمد أن الظروف الموضوعية لتوقيع اتفاق تطبيع شامل ما تزال غير مكتملة، مشيرًا إلى وجود عدد من العقبات الرئيسية:
* الحساسيات الداخلية: داخل المجتمع السوري، خاصة بعد الثورة والصراع الدامي.
* قضايا مركزية: مثل الجولان، وحقوق الفلسطينيين، التي تشكل حجر عثرة أمام أي اتفاق لا يعالجها.
* الشارع السوري: ما يزال يحمل مشاعر رافضة لأي تطبيع سريع أو مجاني مع إسرائيل.
لكن المحمد لم يستبعد أن تبدأ الأمور بخطوات أولية، مثل: تفاهمات أمنية، قنوات اتصال غير رسمية، تعاون في مجالات الطاقة أو المياه.
وزاد موضحًا: “ليس من المتوقع أن يكون الاتفاق – إن حصل – على غرار اتفاقات السلام الكامل المعروفة، بل قد يكون أشبه باتفاق أمني، أو تفاهمات متدرجة، دون ضجة إعلامية كبيرة، تبدأ بخطوات بسيطة وتمهّد الطريق لمراحل أكثر تقدمًا”.
تطبيع مُعلَّق على ميزان المصالح
في المحصلة، بات ملف التطبيع بين سوريا وإسرائيل مطروحًا على الطاولة السياسية بشكل حقيقي، لكن تحقيقه يبقى رهْنًا بتوازن دقيق بين الداخل السوري، والمواقف الإقليمية، والمصالح الدولية. ولا يبدو أن الاتفاق سيأتي بسرعة أو بصخب، بل ربما كجزء من تفاهمات أمنية تدريجية، تمهّد الأرض لتطورات مستقبلية قد تكون أكثر شمولية.
وفي الوقت الذي تشير فيه المؤشرات إلى وجود تحركات خلف الكواليس، فإن الشارع السوري، وحتى بعض الجهات الدولية، ما تزال تراقب بحذر، إذ إن أي خطوة تُنظر إليها على أنها “تنازل عن الحقوق” قد تُثير ردود فعل عنيفة، وتُعيد تنشيط دوامة الصراع.