تشهد محافظة السويداء، الواقعة في جنوب سوريا، أزمة معقدة تجمع بين الصراعات المحلية والتدخلات الخارجية، في ظل تصاعد التوترات الأمنية والاشتباكات بين فصائل درزية وعشائر بدوية.
هذه الأزمة، التي أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى وموجات نزوح واسعة، تعكس هشاشة الوضع السياسي والأمني في البلاد.
ومع إعلان وقف إطلاق النار وانتشار قوات الأمن الداخلي، تبرز تساؤلات حول سبل حل الأزمة وتداعياتها على مستقبل سوريا.
تطورات الأزمة في السويداء
بدأت الأزمة الأخيرة في السويداء بتجدد الاشتباكات بين فصائل درزية وعشائر بدوية، مما أدى إلى مقتل أكثر من 169 شخصًا، بينهم أطفال ونساء، وإصابة المئات، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
هذه الاشتباكات، التي وصفتها السلطات السورية بأنها ناتجة عن “مجموعات خارجة عن القانون”، استدعت تدخل قوات الأمن الداخلي والجيش السوري لفرض وقف إطلاق النار.
وفي 19 تموز/يوليو 2025، أعلنت الرئاسة السورية عن اتفاق وقف إطلاق النار، شمل انسحاب مقاتلي العشائر إلى أطراف المدينة، ونشر حواجز أمنية لتثبيت الاستقرار.
وأكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك، دخول الاتفاق حيز التنفيذ عند الساعة 17:00 يوم الأحد، مع خطط لتبادل الأسرى بين الأطراف.
كما أعلن قائد الأمن الداخلي في السويداء، العميد أحمد الدالاتي، عن اتفاق للإفراج عن عائلات العشائر المحتجزة، مع التأكيد على ضمان عودتهم الآمنة إلى ديارهم.
ومع ذلك، شهدت المدينة تجددًا للاشتباكات رغم الاتفاق، مما يعكس هشاشة الهدنة. تزامن ذلك مع موجات نزوح كبيرة، حيث غادرت مئات العائلات، خاصة النساء والأطفال، إلى محافظة درعا المجاورة، هربًا من العنف.
تدخلات خارجية وتدويل الملف
أثارت الأزمة مخاوف من تدويل ملف السويداء، خاصة مع تدخل إسرائيل التي شنت غارات جوية على مواقع عسكرية سورية في المنطقة، بدعوى “حماية الأقلية الدرزية”.
واعتبر الباحث ميسرة بكور، مدير المركز العربي الأوروبي للدراسات السياسية والاجتماعية، في حديث لمنصة سوريا ٢٤، أن إسرائيل تسعى لتكريس واقع انفصالي يخدم أمنها الحدودي، مستغلة الفوضى الأمنية في المنطقة.
تحليل الأزمة: صراع الهوية والسلاح
ويرى الباحث بكور أن السويداء تمر بمرحلة مفصلية تعكس صراعًا بين الدولة الوطنية وفوضى متعددة الأطراف.
ويربط بكور خصوصية المنطقة بتاريخها المقاوم، الذي أفرز علاقة معقدة بين المجتمع المحلي والدولة، تجمع بين الاستقلالية والولاء.
ويؤكد أن الأزمة كشفت عن تشكل جماعات مسلحة غير نظامية، بعضها مدعوم خارجيًا، تحولت من الدفاع الذاتي إلى شبكات مصالح تستفيد من الفوضى الاقتصادية والسلاح المنفلت.
نحو مشروع وطني جامع
ومع تصاعد التوتر، استجابت المؤسسات المحلية والجمعيات الخيرية بتوزيع المساعدات الإنسانية، بما في ذلك المياه والمواد الغذائية، لتلبية احتياجات النازحين.
من جهته، يرى الدكتور طلال المصطفى، الباحث في المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، أن الاقتتال في السويداء هو انعكاس لحالة الفوضى السياسية والأمنية العامة في سوريا، مشيرًا إلى أن تدويل الأزمة يهدد الهوية الوطنية ويعزز مخاطر الصراعات الأهلية.
ويؤكد المصطفى في حديث لمنصة سوريا ٢٤ أن ما يجري ليس مجرد نزاع محلي، بل مؤشر على تفكك المنظومة الوطنية، في ظل تراجع صوت العقل أمام السلاح.
ولمعالجة الأزمة، يقترح الباحثون جملة من الحلول السياسية والتنموية التي تركز على استعادة السيطرة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع المحلي:
* حوار وطني شامل: يشدد المصطفى على ضرورة إطلاق حوار جامع يعيد الاعتبار لوحدة السوريين، ويؤسس لمشروع سياسي جديد يقوم على المواطنة المتساوية.
* نزع السلاح: من جهته، يرى بكور أن تفكيك البنى المسلحة غير النظامية ودمجها ضمن إطار وطني هو خطوة أساسية لاستعادة السيطرة. ويؤكد المصطفى على ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة لمنع تكرار الاشتباكات.
* العدالة الانتقالية: ويدعو بكور إلى تفعيل العدالة الانتقالية لمعالجة الانتهاكات وإعادة بناء الثقة بين الأطراف، مع دعم المرجعيات الدينية المعتدلة لتعزيز الوحدة الوطنية.
* نهج تنموي: ويشدد بكور على أهمية النهج التنموي إلى جانب الحلول الأمنية، من خلال معالجة الأزمات الاقتصادية التي تغذي الفوضى، وتأمين متطلبات الحياة الكريمة للسكان.
* ضبط التدخلات الخارجية: ويدعو بكور إلى الاعتماد على الدبلوماسية الإقليمية لضبط الحدود ومنع التدخلات الخارجية، خاصة من إسرائيل التي قد تستغل الأزمة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
التحديات والمخاطر
ورغم الجهود المبذولة لتثبيت وقف إطلاق النار، تظل الأزمة محفوفة بالتحديات. فهشاشة الاتفاق، كما أظهرتها تجدد الاشتباكات، تشير إلى غياب الثقة بين الأطراف.
كما أن استمرار التدخلات الخارجية، خاصة من إسرائيل، يهدد بتوسيع نطاق الصراع وتعقيد الحلول.
ويحذر الباحث طلال المصطفى من أن الفشل في معالجة الأزمة قد يؤدي إلى انهيار أوسع يهدد وحدة سوريا، في حين يرى بكور أن نجاح الدولة في إدارة الأزمة قد يحول السويداء إلى نموذج للمصالحة الوطنية.
ووسط كل ذلك، تُعد أزمة السويداء اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السورية على استعادة السيطرة وإعادة بناء النسيج الوطني. إن نجاح الحلول يتطلب نهجًا شاملًا يجمع بين الحوار السياسي، نزع السلاح، العدالة الانتقالية، والتنمية الاقتصادية، مع ضبط التدخلات الخارجية.
وفي ظل تصاعد التحديات، يبقى السؤال المحوري: هل ستتمكن سوريا من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة للمصالحة، أم أنها ستكون بداية لمرحلة جديدة من الصراع؟ الإجابة تعتمد على قدرة جميع الأطراف على تحكيم العقل والابتعاد عن لغة السلاح، لصالح مشروع وطني يضمن الوحدة والكرامة لكل السوريين.