بعد أحد عشر عاماً من النزوح عاد الدكتور محمود مصطفى إلى بلدته تلجبرين في ريف حلب الشمالي ليقف أمام بيته الذي لم يبق منه سوى الركام.
يقول لمنصة سوريا 24 إن لحظة العودة كانت ممزوجة بالفرح والعزّة لأنه عاد إلى أرضه، لكنها كانت في الوقت ذاته مؤلمة بعدما اكتشف أن منزله قد هُدم ونُهبت منه الأبواب والنوافذ وتم تخريب شبكات الكهرباء والماء فيه، وأن الطرقات في القرية محطمة وتغطيها السواتر الترابية.
ويستعيد ذكريات اليوم الذي اضطر فيه إلى مغادرة بيته مع عائلته تحت القصف، كيف كان يرى الأشلاء تتناثر أمامه بسبب البراميل المتفجرة وكيف غادر منزله باكياً مع أولاده الذين كانوا يبكون خوفاً وحزناً على فراق بيتهم وقريتهم.
تلجبرين..والحراك الثوري
تقع بلدة تلجبرين في ريف حلب الشمالي إلى الشمال من مدينة حلب بنحو 25 كيلومتراً، وكانت قبل عام 2011 بلدة زراعية هادئة تعتمد على القمح والشعير والزيتون والفستق والعنب.
مع انطلاق الحراك الثوري في سوريا شارك أبناء تلجبرين في المظاهرات المناهضة للنظام، وسرعان ما أصبحت البلدة جزءاً من مناطق سيطرة فصائل الجيش الحر حتى عام 2014 حين اجتاحها تنظيم داعش.
وبعد معارك عنيفة خاضتها الفصائل في ريف حلب الشمالي تمكنت من طرد داعش في أكتوبر/تشرين الأول 2015، لتعود البلدة ساحة قتال جديدة بين قوات النظام المدعومة بالطيران الروسي والميليشيات الإيرانية من جهة، والفصائل المحلية من جهة أخرى في 2016 ضمن محاولات السيطرة على الريف الشمالي، ما أدى إلى تدمير واسع للبنية التحتية وتهجير كامل للسكان.
منذ ذلك الوقت بقيت تلجبرين شبه مهجورة حتى سقوط النظام وتحريريها بشكل نهائي في عام 2025 وعودة مئات العائلات تدريجياً إلى بيوتها المهدمة.
دمار وغياب للخدمات
اليوم وبعد التحرير تبدو البلدة منهكة من الحرب، إذ تفتقر بشكل شبه كامل إلى الخدمات الأساسية، فمحطة مياه الشرب موجودة لكنها متوقفة منذ التحرير وتحتاج إلى مصاريف تشغيلية لتأمين المازوت والفلاتر والعمال، ولا توجد كهرباء ولا شبكة صرف صحي عاملة ولا بلدية فاعلة، كما لم يُنفذ فيها أي مشروع خدمي حتى الآن باستثناء توزيع سلال غذائية على 158 عائلة فقط من أصل نحو 600 عائلة مقيمة، فيما تعيش بقية العائلات ظروفاً معيشية صعبة.
بلا صحة
القطاع الصحي معدوم تقريباً ولا توجد نقطة طبية دائمة سوى عيادة متنقلة تزور القرية مرتين في الشهر ولا تغطي أكثر من خمسة بالمئة من الاحتياج، بينما يضطر الأهالي لقطع أكثر من 25 كيلومتراً للوصول إلى أقرب مركز طبي وسط ندرة وسائل النقل.
لاتعليم
أما التعليم فلا يزال معطلاً تقريباً، إذ توجد مدرستان فقط؛ الأولى مدمرة بالكامل وتحتاج إلى إعادة بناء شاملة والثانية كانت تعمل جزئياً لكنها لم تعد قادرة على استقبال الأعداد المتزايدة من الطلاب وهي بحاجة إلى ترميم، ولا يوجد أي دعم من المنظمات أو الجهات الدولية لهذا القطاع.
يعتمد القليل من السكان حالياً على أعمال المياومة في البناء أو على مشاريع صغيرة تكاد لا تكفي لسد متطلبات الحياة اليومية، بينما يقف معظم الأهالي عاجزين عن تأمين حتى مياه الشرب التي تصل كلفة استجرار المتر المكعب منها إلى نحو 25 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 2.5 دولار يومياً، وهو مبلغ يفوق قدرة معظم العائلات.
المجلس المحلي: نسبة الدمار كبيرة
ويؤكد رئيس مجلس البلدة عثمان عبد الكريم المصطفى أن نسبة الدمار في تلجبرين كبيرة، إذ يوجد نحو ألف منزل منها 170 منزلاً مدمراً بشكل كامل و450 منزلاً مدمراً جزئياً مع نهب الأبواب والنوافذ وشبكات المياه والكهرباء، كما أن المسجد الرئيسي (علي بن أبي طالب) مدمر كلياً ويحتاج إلى إعادة إعمار فيما يعمل مسجد عمر بن الخطاب لكنه لا يكفي لاستيعاب المصلين.
يشير رئيس المجلس إلى أن البلدة شهدت خلال فترة سيطرة النظام السابق والمليشيات أعمال استغلال جائر لأراضي المزارعين الذين هُجروا منها، فقطعت مئات الأشجار المثمرة التي يزيد عمر بعضها عن مئة عام وتم إنهاك التربة، وزاد من معاناة المزارعين الجفاف الأخير الذي قضى على ما تبقى من إنتاج.
ويضيف أن الوضع الأمني حالياً جيد ومستقر ولم تسجل أي حوادث تهدد حياة المدنيين، وقد عاد حتى الآن حوالي 250 عائلة بشكل كامل وهناك نحو 200 عائلة أخرى تستعد للعودة.
وعلى الرغم من هذا الواقع الصعب يقول الدكتور محمود إن سنوات النزوح لم تزده إلا إصراراً على البقاء في أرضه، وهو يؤمن بأن تلجبين ستعود أفضل مما كانت عليه إذا تكاتفت الجهود.
أمل ودعوة لعودة أهالي البلدة
ويوجه رسالة واضحة إلى كل المهجرين بأن هذه البلدة هي أرض أجدادهم وحاضنة ذكرياتهم ولا يجوز تركها خراباً، كما يطالب بتوفير مقومات الحياة الأساسية وإعادة إعمار المدارس والمستوصف وتشغيل الخدمات ودعم المشاريع الصغيرة حتى تصبح العودة ممكنة للجميع وتستعيد تلجبرين نبضها من جديد.