في شوارع دمشق، لم تعد مشاهد الأطفال الذين يعرضون علب المحارم أو الأعلام الصغيرة على السيارات أمرًا نادرًا أو طارئًا، بل أصبحت هذه الظاهرة جزءًا من الحياة اليومية في العاصمة، تتكرر على مدار الساعة عند إشارات المرور، أمام المحال التجارية، وفي الأزقة والأسواق.
ويجمع سكان المدينة على أن هذه الظاهرة ليست جديدة، بل تتجدد باستمرار وبأشكال مختلفة، وسط تزايد واضح في عدد الأطفال وانتشارهم في مختلف المناطق.
مشاهد من شوارع دمشق
في محاولة لفهم تفاصيل هذا المشهد من الميدان، يقول شريف الحسن، وهو صاحب محل تجاري في منطقة الحجاز، لمنصة سوريا 24 إن الأطفال يأتون يوميًا تقريبًا، يدخلون المحال، يعرضون محارم أو أعلامًا صغيرة، لكنهم لا يتحدثون عن هويتهم أو من أين جاؤوا.
ويضيف باختصار: “الموضوع قديم، وكل مرة بلبوس جديد، واللافت أنهم لا يجيبون على الأسئلة، كأنهم مدرّبون على الصمت”.
وتتكرر قصة مشابهة عند جسر فكتوريا، حيث تقف عبير، وهي طفلة لا تتجاوز العاشرة من عمرها، تحمل علبة محارم صغيرة تلوّح بها لسائقي السيارات.
حينما سألها مراسل “سوريا 24” عن مكان سكنها، اكتفت بالقول: “أنا من مكان بعيد… أبي توفي… أشتغل مشان نعيش”.
علامات الإرهاق ظاهرة على وجهها، وملابسها توحي بإهمال واضح، ما يعكس واقعًا قاسيًا تعيشه هذه الطفلة ومئات مثلها.
شبكات منظمة تقف وراء تسول الأطفال
مع تكرار المشاهد ذاتها في أوقات محددة وأماكن ثابتة، تبرز تساؤلات حول وجود جهة ما تنظم وتدير انتشار هؤلاء الأطفال.
إذ أكد عدد من شهود العيان لمنصة “سوريا 24” أنهم لاحظوا سيارة من نوع هونداي تقوم صباحًا بإنزال مجموعات من الأطفال في أحياء مختلفة من دمشق، وكل مجموعة تحمل نوعًا محددًا من البضائع.
ووفق أقوالهم، فإن التوزيع يتم بطريقة منتظمة، ما يشير إلى احتمال وجود شبكة تقف خلف هذا النشاط اليومي، وتستفيد من الأطفال في التسول أو البيع الإجباري.
أساليب التسول: من الإلحاح إلى انتهاك الخصوصية
في سياق مرتبط، تبيّن أن الأطفال لا يكتفون بعرض بضاعتهم، بل يتبعون طرقًا تعتمد على الإلحاح الشديد، وأحيانًا التشبث بزجاج السيارات، أو ملاحقة الزبائن بشكل يضع المارة في موقف لا يسمح لهم بالرفض.
ويقول أحد السائقين لمنصة سوريا 24 إن بعض الأطفال يفتحون أبواب السيارات من دون استئذان، أو يمدّون أيديهم داخلها، ما يجعل كثيرين يفضلون دفع المال تفاديًا للإحراج أو الضرر.
ارتفاع في أعداد المتسولين.. وأطفال في الواجهة
كانت صحيفة “القدس العربي” نقلت عن مصدر سابق في الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، لم تسمه، أن عدد المتسولين ارتفع خلال الأشهر الماضية بنسبة تصل إلى 25%، لا سيما في شهر رمضان.
وبحسب التقرير، فإن بعضهم يستغل الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة لكسب التعاطف، مؤكدًا أن عدد المتسولين العام الماضي بلغ نحو 250 ألفًا، من بينهم 25 ألف طفل.
قانون يجرّم الاستغلال وتطبيق محدود
في ضوء تفاقم الظاهرة، لا بد من الإشارة إلى الجوانب القانونية التي تجرّم استغلال الأطفال في التسول، إذ ينص قانون العقوبات السوري المعدل عام 2019 على الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، لكل من يستغل قاصرًا في التسول، أو يمتهنه باستخدام أساليب الخداع أو التهديد أو التنكر.
ورغم ذلك، فإن تطبيق القانون على أرض الواقع لا يزال محدودًا، في ظل غياب آليات المتابعة الفعالة، وضعف الإمكانيات لدى الجهات الرقابية.الجهود الحكومية: مراكز غير كافية وخطط مستقبلية
على صعيد الجهود الحكومية، توضح ليليان المغوش، مسؤولة ملف التسول والأحداث في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، في تصريح خاص لـ”سوريا 24″، أن الوزارة لا تملك حتى الآن إحصاءات دقيقة لأعداد المتسولين، لكنها تعمل من خلال لجنة وطنية شُكّلت بقرار رسمي على إحصائهم.
وتضيف أن الطاقة الاستيعابية للمراكز غير كافية، حيث لا يتجاوز عددها مركزين في دمشق ومركزًا واحدًا في حلب، وهو عدد لا يغطي حجم الحاجة الفعلية.
وتشير المغوش إلى أن نسبة كبيرة من الأطفال المتسولين خارج المدارس، وأن بعض الأهالي متورطون في دفع أطفالهم لهذا النشاط.
وتؤكد أن الحكومة بصدد تنفيذ خطة لإعادة تأهيل المراكز القائمة، إلى جانب افتتاح مراكز جديدة في دمشق وحلب وباقي المحافظات، بالتعاون مع عدد من الوزارات المعنية والمحافظين والمنظمات المدنية، في محاولة لضبط الظاهرة والحد من آثارها المتفاقمة.
التسول الطفولي: عرض لفقر أم عصابات منظمة؟
في ظل هذه المعطيات، لا يبدو أن الظاهرة ستختفي قريبًا، فالتسول في سوريا، وخصوصًا عبر الأطفال، لم يعد مجرد تعبير عن الفقر، بل أصبح نتاجًا مركبًا لأزمة اقتصادية واجتماعية طويلة الأمد، تغذيها شبكات منظمة، وتستغل ثغرات القانون وغياب الرادع.
ويبقى السؤال المطروح: متى تتحول هذه الجهود المتفرقة إلى خطة شاملة تحمي الأطفال، وتعيد إليهم حقهم في التعليم والحياة الكريمة، بدلًا من تركهم في الشوارع ضحايا لواقع لا يرحم؟