في خطوة وُصفت بأنها بداية مسار تعاون استراتيجي جديد، وقّعت تركيا وسوريا، الأربعاء، مذكرة تفاهم للتدريبات والاستشارات العسكرية، بعد أشهر من المفاوضات وسلسلة اجتماعات جمعت وزراء الخارجية والدفاع في البلدين، إلى جانب رئيسي المخابرات.
ووفق بيان وزارة الدفاع التركية، فإن المذكرة تستهدف التنسيق والتخطيط للتدريب، وتقديم الاستشارات، وتبادل المعلومات والخبرات، وضمان شراء المعدات العسكرية، وأنظمة الأسلحة، والمواد اللوجستية، والخدمات ذات الصلة.
ويأتي هذا التفاهم في وقت يرى فيه مراقبون أن الجيش السوري بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة شاملة بعد حرب استمرت أكثر من عقد، وهو ما أشار إليه مسؤول تركي في تصريحات سابقة لرويترز، لافتًا إلى وجود أوجه قصور في الانضباط والتدريب والتنظيم والتحديث.
كما عبّرت أنقرة عن تململها من عدم تنفيذ اتفاق آذار/مارس الماضي بين دمشق وقوات قسد، الذي يقضي بدمج عناصرها في مؤسسات الدولة السورية.
وحذّرت تركيا من أنها قد تقوم بعمل عسكري ضد قسد إذا لم تتم معالجة مخاوفها الأمنية، خاصة بعد اشتباكات بين قواتها والقوات الحكومية، ومؤتمرها الأخير الذي طالب فيه بمراجعة الإعلان الدستوري السوري.
تعزيز الشرعية والضغط على التنظيمات الانفصالية
الباحث في مركز “عمران” للدراسات، أسامة الشيخ علي، يرى في حديث لمنصة سوريا 24 أن هذه المذكرة تمنح العلاقات التركية السورية بُعدًا استراتيجيًا جديدًا، فهي لا تقتصر على الدعم العسكري المباشر، بل تمتد إلى مجالات اقتصادية وأمنية ولوجستية.
ويشرح الشيخ علي أن بنود المذكرة تشمل تقديم دعم لوجستي، وإجراء تدريبات متخصصة، والتعاون في مجال الدفاع السيبراني، ومعالجة قضايا إزالة الألغام، وتعزيز الانضباط العسكري، وتدريب القوات على السلوك والانضباط، وهي كلها تحديات حقيقية أمام الجيش السوري الجديد، الذي لا يزال في طور التشكل.
ويضيف أن “الجيش السوري بحاجة ماسة إلى هذه الخبرات، ولا سيما من دولة مثل تركيا، التي تمتلك معايير عالية في العمل العسكري وتنتمي إلى حلف الناتو”، معتبرًا أن هذه الاتفاقيات إشارة واضحة لدعم الحكومة السورية وتعزيز شرعيتها.
كما يرى أن للمذكرة بُعدًا تفاوضيًا واضحًا، إذ تمثل أداة ضغط على قوات قسد لدفعها نحو تقديم تنازلات، والحفاظ على المسار التفاوضي مع دمشق، ومنع البحث عن مسارات بديلة قد تُقوّض وحدة سوريا.
انعكاسات إقليمية
إقليميًا، يعتقد الشيخ علي أن الاتفاق مع تركيا يمنح دمشق شعورًا بالارتياح في مواجهة الضغوط الإسرائيلية، التي حاولت استغلال حالة الضعف الأمني لإحداث اختراقات في عدة مناطق. ويؤكد أن هذه الخطوة تحمل رسالة واضحة للأطراف المعادية بأن الجيش السوري سيحظى بدعم وتدريب وتأهيل في المرحلة المقبلة.
رسائل داخلية وخارجية متشابكة
أما المحلل السياسي رضوان الأطرش، فيؤكد في حديث لمنصة سوريا 24 أن الاتفاقية تحمل رسائل هامة على المستويين الداخلي والخارجي، ويمكن تلخيصها على النحو الآتي:
الرسائل الداخلية: إعادة ترتيب البيت الداخلي السوري، عبر إظهار قدرة دمشق على استقطاب شركاء إقليميين مؤثرين، وفي مقدمتهم تركيا، التي كانت في السنوات الأولى للأزمة الداعم الأبرز للمعارضة المسلحة.
وتعزيز الروح الوطنية والمعنويات داخل الجيش والمؤسسات الأمنية، عبر الإيحاء بأن القيادة ماضية في تحديث القدرات العسكرية، ما قد يشجع الشباب السوري على الانضمام إلى المؤسسة العسكرية.
الرسائل الخارجية إلى روسيا وإيران: تؤكد دمشق أنها تتحرك بمرونة سياسية، وليست مرتهنة بالكامل لأي محور، وأنها قادرة على صياغة تفاهمات تخدم مصالحها حتى مع أنقرة.
إلى الولايات المتحدة والغرب: إشارة إلى أن سياسة العزل لم تمنع أنقرة ودمشق من إيجاد أرضية مشتركة، وأن التفاهمات السورية يمكن أن تتم خارج المظلة الغربية، في مسار مستقل عن طاولة المفاوضات الدولية.
التأثيرات الإقليمية المتوقعة
في الجانب الإقليمي، يرى الأطرش أن الاتفاقية قد تُترجم إلى تنسيق أمني وعسكري مشترك ضد قسد، وهو ما قد يُقلّص من نفوذ واشنطن في شرق الفرات. كما يمكن أن تفضي إلى آلية مشتركة لضبط الحدود، وتقليص نشاط الوحدات الكردية المسلحة، أو دفعها للإسراع في تنفيذ اتفاق العاشر من آذار، والانضمام إلى مؤسسات الدولة السورية.
ويضيف أن المشهد الأمني الإقليمي قد يشهد انعكاسات واسعة، إذ إن دمشق تسعى عبر هذه التفاهمات إلى ضبط أمنها القومي وأمن دول الجوار، في إطار أوسع من محاربة الإرهاب وإعادة الاستقرار.
دلالات المذكرة: ما بعد التوقيع
وتتجاوز المذكرة كونها اتفاقًا فنيًا للتدريب العسكري، حسب الأطرش، إذ تأتي في سياق إعادة ترتيب التوازنات في المنطقة، حيث تسعى أنقرة لتأمين حدودها الجنوبية عبر تحييد التهديد الكردي، فيما ترى دمشق في التقارب مع تركيا فرصة لتعزيز سيطرتها، وإعادة هيكلة جيشها بدعم من قوة عسكرية إقليمية ذات خبرة كبيرة.
وبالنسبة للشارع السوري، قد يُنظر إلى هذه الخطوة كإشارة على أن الدولة ما تزال قادرة على إبرام اتفاقات دفاعية وتحالفات جديدة، رغم سنوات الحرب والعقوبات.
أما على مستوى العلاقات الدولية، فإنها تمثل نموذجًا لإمكانية كسر الجمود السياسي عبر مسارات ثنائية، بعيدًا عن التعقيدات الدولية.
نحو شراكة أمنية واستراتيجية
ويُنظر إلى مذكرة التفاهم العسكرية بين تركيا وسوريا على أنها بداية لمسار طويل نحو شراكة أمنية واستراتيجية، إضافة إلى أنها ورقة ضغط متبادلة، تهدف أنقرة عبرها إلى تحصيل مكاسب أمنية عاجلة، فيما تراهن دمشق على استثمارها لتعزيز شرعيتها وإعادة تشكيل جيشها.
وبين هذين البُعدين، تبقى المذكرة محطة أساسية في مسار العلاقات بين البلدين، وقد تُشكّل، إذا ما تواصلت خطواتها التنفيذية، تحولًا مؤثرًا في المشهد السوري والإقليمي خلال المرحلة المقبلة.