شهدت العاصمة الفرنسية باريس، الثلاثاء، اجتماعاً غير مسبوق جمع وزير الخارجية والمغتربين السوري، أسعد حسن الشيباني، مع وفد إسرائيلي، في خطوة وُصفت بأنها مفصلية في سياق التحركات الإقليمية والدولية الساعية لإعادة رسم ملامح الاستقرار في الجنوب السوري.
مصدر حكومي يوضح
وفي السياق، قال مصدر في الحكومة السورية لقناة الإخبارية: “إنه في إطار الجهود المبذولة لاحتواء التوتر في الجنوب السوري، عقد وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني ورئيس الاستخبارات اجتماعاً في باريس مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي”.
وأضاف أن “الجانبين أكدا التمسك بوحدة الأراضي السورية ورفض أي مشاريع تستهدف تقسيمها، وأن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا، وأن المواطنين الدروز جزء أصيل من النسيج الوطني”.
كما جرى التطرق إلى الأوضاع الإنسانية في الجنوب، واتفق الطرفان على ضرورة تكثيف المساعدات الموجهة لأبناء السويداء والبدو، للتخفيف من وطأة الظروف المعيشية الصعبة، وفق ذات المصدر.
ولفت إلى أن “الجانبين ناقشا ضرورة التوصل إلى آلية واضحة تعيد تفعيل اتفاق وقف الاشتباك الموقع عام 1974، بما يضمن وقف التوغلات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، ويؤسس لبيئة أكثر استقراراً”.
وذكر المصدر كذلك أن الاجتماع اختُتم بالتأكيد على التزام الجانبين بالعمل من أجل خفض التصعيد في الجنوب، منعاً لانزلاق المنطقة إلى مواجهة مفتوحة.
جملة قضايا أمنية وسياسية
اللقاء الذي جرى بوساطة أميركية، تناول جملة من القضايا الأمنية والسياسية، أبرزها ملف محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974، إضافة إلى بحث آليات خفض التصعيد ومنع التدخلات في الشأن الداخلي السوري.
ووفقاً لوكالة الأنباء السورية “سانا”، فقد تركزت النقاشات على التوصل إلى تفاهمات تدعم وقف إطلاق النار في الجنوب السوري، ومراقبة الالتزامات الميدانية على الأرض، فضلاً عن إعادة النظر في بعض بنود اتفاق 1974 بما يتناسب مع التطورات الراهنة.
هذه الخطوة تأتي بعد سلسلة من اللقاءات السابقة، كان آخرها اجتماع الشيباني في عمّان مع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك، والذي أثمر عن تشكيل مجموعة عمل ثلاثية (سورية – أردنية – أميركية) لدعم جهود تثبيت وقف إطلاق النار في السويداء.
أهمية اللقاء في السياق الإقليمي
الاجتماع في باريس لم يكن حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل يمثل محطة فارقة في مسار التفاوض غير المباشر بين دمشق وتل أبيب. إذ جرى في ظروف إقليمية شديدة التعقيد، بعد أحداث السويداء الأخيرة التي كشفت هشاشة الوضع الداخلي السوري، وفتحت الباب واسعاً أمام الأطراف الإقليمية والدولية لإعادة رسم أولوياتها تجاه الجنوب السوري، باعتباره ساحة استراتيجية تمس أمن إسرائيل من جهة، ووحدة الجغرافيا السورية من جهة أخرى.
الباحث السياسي والأكاديمي سمير العبد الله أكد في حديث لمنصة سوريا 24 أن اللقاء “محوري”، كونه يأتي بعد سلسلة من التوترات والأحداث المفصلية في سوريا، وعلى رأسها تطورات السويداء.
وقال العبد الله: “تكمن أهمية هذا اللقاء في أنه يُجرى بعد أحداث السويداء، والتي شكّلت منعطفاً خطيراً في المشهد السوري. لذلك فإن اللقاء يحمل وزناً كبيراً، خصوصاً إذا ما أسفر عن نتائج ملموسة على الأرض”.
وأضاف أن النقاشات من المرجح أن تركز على وضع حد “للخروقات والانتهاكات الإسرائيلية اليومية في جنوب سوريا”، مشيراً إلى أن الرعاية الأميركية للمفاوضات قد تفتح الباب أمام تفاهمات أمنية جديدة، إلا أن التحديات ما زالت كبيرة، لا سيما مع امتلاك إسرائيل “ورقة تفاوضية قوية بعد أحداث السويداء”، فضلاً عن سعيها إلى توسيع المنطقة الأمنية العازلة جنوب البلاد.
السويداء في قلب المفاوضات
ملف السويداء بدا حاضراً بقوة في اجتماع باريس، إذ تسعى الأطراف إلى معالجة تداعيات الأحداث الأخيرة التي شهدتها المحافظة، والتي شكّلت اختباراً صعباً للحكومة السورية الجديدة.
وبحسب العبد الله، فإن “الوضع في السويداء منح إسرائيل مساحة مناورة أكبر في المفاوضات، حيث تطرح إمكانية فتح ممر إنساني إلى المحافظة، إلى جانب تعزيز نفوذها الأمني في الجنوب”.
وفي المقابل، يعاني الموقف السوري من “ضعف نسبي”، وفق العبد الله، نتيجة التشرذم الداخلي وعدم الاستقرار السياسي والأمني بعد سلسلة من الأحداث التي طالت الساحل والسويداء. ومع ذلك، يظل الرهان السوري قائماً على استمرار الدعم الأميركي، إضافة إلى مواقف إقليمية متوقعة من تركيا والسعودية، قد تسهم في موازنة الضغوط الإسرائيلية.
بين اتفاق 1974 وأمن الجنوب
من جانبه، يرى الكاتب السياسي حسن النيفي أن اجتماع باريس ليس الأول من نوعه، إذ سبقه لقاء بين الشيباني ومسؤول الشؤون الاستراتيجية في إسرائيل جون ديرمر أواخر الشهر الماضي، أيضاً بوساطة أميركية عبر المبعوث توماس باراك. وأوضح النيفي أن أجندة الشيباني في هذه اللقاءات تتركز على مسألتين أساسيتين:
أولاهما، إمكانية العودة إلى تفعيل اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، ولو عبر إدخال تعديلات طفيفة، بما يتضمن “تعهدات سورية جديدة بألا تشكل أراضيها مصدر تهديد لإسرائيل”.
وأشار النيفي في حديث لمنصة سوريا 24، إلى أن دمشق تأمل أن يقود هذا المسار إلى انسحاب إسرائيل من المواقع التي سيطرت عليها بعد سقوط نظام الأسد.
أما المسألة الثانية، فتتعلق مباشرة بأمن الجنوب السوري، حيث تعمل إسرائيل – بحسب النيفي – على “استثمار أحداث السويداء وتدخلها المباشر فيها، لتثبيت حضورها في كامل الجنوب، وربما الدفع باتجاه جعله منطقة منزوعة السلاح”.
وقال النيفي: “إن ما تسعى إليه إسرائيل هو استغلال ضعف الدولة السورية الراهن، بغية انتزاع إقرار رسمي بجعل الجنوب حرس حدود لإسرائيل. لكن في المقابل، لا يبدو أن هذه اللقاءات يمكن أن تقود إلى صفقات تطبيع شاملة في المدى القريب، إذ يظل الطابع الأمني هو المسيطر على أجندة الحوار”.
البعد الأميركي في المشهد
لا يمكن فصل لقاء باريس عن الدور الأميركي الواضح في رعاية هذه المفاوضات، والذي يسعى إلى ضبط إيقاع التوازنات في المنطقة، ومنع انزلاق الجنوب السوري إلى مواجهات مفتوحة.
فواشنطن التي دفعت سابقاً نحو تشكيل مجموعة عمل ثلاثية مع الأردن وسوريا، تبدو حريصة اليوم على أن تكون الراعي الأساسي لأي تفاهمات سورية – إسرائيلية، بهدف منع تمدد نفوذ إيران وروسيا في تلك المنطقة الحساسة.
ويمكن للرعاية الأميركية أن تمنح المفاوضات قدراً من الجدية، لكنها في الوقت نفسه تعكس حدود الحلول الممكنة، إذ تحصر الحوار في الجانب الأمني والاستقرار الميداني، بعيداً عن الملفات السياسية الكبرى التي ما تزال مجمّدة، سواء ما يتعلق بالحل السياسي الشامل في سوريا أو مستقبل العلاقة السورية – الإسرائيلية على المدى الطويل.
رسائل الاجتماع وتداعياته
وحسب ما تحدث به العبد الله والنيفي، فإن اجتماع باريس يبعث بعدة رسائل أساسية:
• دمشق تسعى إلى تثبيت وقف إطلاق النار في الجنوب وتفادي المزيد من الانهيار الداخلي عبر تفاهمات أمنية ولو مؤقتة.
• إسرائيل تستثمر الوضع السوري الهش لتحقيق مكاسب ميدانية، أهمها تكريس الجنوب كمنطقة عازلة.
• الولايات المتحدة تؤكد دورها المركزي في هندسة التفاهمات ومنع القوى المنافسة من التمدد.
• الأردن حاضر في الصورة عبر مسار عمّان الأخير، ما يعكس إدراكه أن استقرار الجنوب السوري ضرورة لأمنه الداخلي.
ووسط كل ذلك، فإن لقاء باريس بين الشيباني والوفد الإسرائيلي، يُظهر أن الجنوب السوري بات اليوم ساحة اختبار رئيسية للتوازنات الإقليمية والدولية. فبين طموحات إسرائيل الأمنية، وهشاشة الداخل السوري، والوساطة الأميركية الحثيثة، يبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد المزيد من اللقاءات المشابهة، وإن بقيت في إطارها الأمني الضيق، بعيداً عن أي مسار تطبيع سياسي شامل، لكن ما يطفو على واجهة الأحداث هو أن هذا اللقاء وضع السويداء والجنوب السوري في قلب الحسابات الإقليمية، ورسّخ باريس كمحطة مفصلية في مسار التفاهمات المقبلة.