تشهد الساحة السورية في السنوات الأخيرة نقاشات حادة حول مستقبل الدولة وبنيتها السياسية والإدارية، في ظل طرح قوى محلية، أبرزها قوات “قسد” في شمال شرق البلاد، وبعض الجماعات في محافظة السويداء جنوبًا، لفكرة “الفيدرالية” أو “الحكم الذاتي”، باعتبارها، وفق طرحهم، حلًا يضمن حقوق المكونات ويستجيب لمطالب اللامركزية.
لكن هذه الطروحات، وإن بدت في ظاهرها استجابةً لمشاكل التهميش التاريخي، فإنها تثير مخاوف جدية من كونها مدخلًا إلى تقسيم مقنّع يهدد وحدة الدولة السورية.
في المقابل، يبرز خيار “اللامركزية الإدارية الموسعة” كحلٍّ إصلاحي أكثر أمانًا، يتسق مع تجارب دولية ناجحة مثل تركيا وفرنسا، حيث تُمنح السلطات المحلية صلاحيات خدمية واسعة دون المساس بالسيادة المركزية.
وهنا تتقاطع آراء الخبراء الذين يميزون في حديث لمنصة سوريا 24 بوضوح بين الفيدرالية بوصفها نظامًا سياسيًا قد يقود إلى تفكيك الدول الهشة، واللامركزية الإدارية كأداة لإصلاح مؤسسات الدولة وتعزيز فاعليتها.
الفيدرالية بين النظرية والتطبيق السوري
من الناحية النظرية، لا يمكن إنكار أن الفيدرالية نجحت في دول كبرى مثل ألمانيا وسويسرا وكندا، وأسهمت في تحقيق تنمية متوازنة وحماية للتنوع العرقي والثقافي.
غير أن استنساخ هذه التجربة في سوريا يبدو محفوفًا بالمخاطر، لاعتبارات ترتبط بواقع الانقسام العميق، والهشاشة السياسية والأمنية، وطبيعة القوى التي تطرحها.
في شمال شرق البلاد، تسيطر “قسد” بالقوة العسكرية، وتتعامل مع دمشق بندّية واضحة، عبر فرض شروط وتغييرات إدارية وديموغرافية، وصلت حد توثيق عمليات تهجير قسري ضد السكان العرب، وفق تقارير دولية لمنظمات مثل “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”.
وفي الجنوب، لا تبدو جماعات مثل “حكمت الهجري” أقل خطرًا، إذ مارست ضغوطًا على مؤسسات الدولة واعتدت على ممتلكات العشائر، في إطار مساعٍ لتحويل السويداء إلى كيان مغلق.
هذه الممارسات تعكس أن ما يُسوّق له تحت شعار “الفيدرالية” في سوريا لا يهدف إلى بناء نموذج ديمقراطي يوزع السلطات، بل إلى فرض وقائع تقسيمية تمهيدًا لإعلان كيانات شبه مستقلة، وهو ما يهدد بشكل مباشر وحدة البلاد.
الفيدرالية المطروحة تهديد مقنّع واللامركزية خيار إصلاحي
في هذا السياق، يرى ميسرة بكور، مدير المركز العربي الأوروبي للدراسات، أن من الخطأ تجاهل النقاش حول شكل الدولة، لكن من الضروري التمييز بين الفيدرالية كفكرة ناجحة في بعض الدول، وبين ما يُطرح اليوم في سوريا تحت هذا العنوان.
يقول بكور في حديث لمنصة سوريا 24: “لا أعارض الفيدرالية كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي، فهي نجحت في دول عدة. لكن ما يُطرح في سوريا مختلف تمامًا، ويبدو أقرب إلى مشروع تقسيم مقنّع، أو فرض كيانات مستقلة تتعامل مع الدولة بندّية لا كجزء منها”.
ويضيف أن خطورة الطرح الحالي تكمن في كونه مرتبطًا بوقائع عسكرية وتهجير قسري موثق، فبحسب تقارير “العفو الدولية” عام 2015، جرى تهجير آلاف المدنيين في الحسكة والرقة على يد قوات قسد، وتدمير قرى بأكملها مثل الحسينية.
كما أشارت “هيومن رايتس ووتش” إلى منع سكان الرقة من العودة إلى منازلهم بعد التحرير، ما يعزز فرضية تغيير ديموغرافي ممنهج يخدم مشروعًا انفصاليًا.
ويتابع بكور: “الأمر لا يقتصر على الشمال الشرقي، فحتى في السويداء تمارس جماعات محلية ضغوطًا مشابهة، بهدم منازل وأحياء تعود للعشائر، بهدف تحويل المدينة إلى لون واحد، تمهيدًا لانفصال مقنّع تحت شعار الفيدرالية”.
لكن بكور لا ينفي الحاجة إلى إصلاح، ويرى أن اللامركزية الإدارية خيار واقعي وضروري، شريطة أن تبقى ضمن الإطار الإداري والخدماتي، دون أن تتحول إلى أداة لإعادة رسم حدود الدولة.
ويشدد على أهمية تفعيل قانون الإدارة المحلية القائم وتطويره، بدلًا من البحث عن نماذج مستوردة، مؤكدًا أن الحل الحقيقي يكمن في بناء دولة مدنية قوية وعادلة، تحترم التنوع وتضمن الحقوق.
الفيدرالية وصفة للانقسام واللامركزية جسر للوحدة
من جانبه، يوضح الخبير في القانون الدولي فراس حاج يحيى أن اللامركزية الإدارية ليست سوى أداة لتحسين الخدمات عبر منح صلاحيات تنفيذية للمحليات في مجالات مثل الصحة والتعليم، بينما تبقى السيادة والقرارات السيادية الكبرى (الجيش والسياسة الخارجية) بيد الحكومة المركزية. ويؤكد في حديث لمنصة سوريا 24 أن هذا النموذج معمول به في دول مثل تركيا وفرنسا، وينظم عبر القوانين، دون أن يمس وحدة الدولة.
أما الفيدرالية، وفق حاج يحيى، فهي نظام سياسي يقسم السيادة نفسها بين كيانات ذاتية الحكم، لها برلماناتها وقواتها الأمنية الخاصة، وهو ما يتطلب تغييرًا جذريًا في الدستور. وفي حالة سوريا، يمثل هذا النظام خطرًا مباشرًا على وحدة الدولة الوليدة، لعدة أسباب:
* تكريس الانقسامات العرقية والمناطقية إلى كيانات سياسية دائمة، ما يمنع بناء هوية وطنية جامعة.
* خلق فوضى تشريعية وقضائية نتيجة تضارب القوانين، تعيق إعادة الإعمار والاستثمار.
* تمزيق السياسة الخارجية وتحويل سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة بلا نهاية.
ويخلص حاج يحيى إلى أن الفيدرالية المطروحة من طرف واحد، سواء داخلي أو خارجي، ليست حلًا وطنيًا بل أجندة تقسيمية، بينما تمثل اللامركزية الإدارية الموسعة الخيار العملي والآمن، إذ تتيح تلبية المطالب المحلية في تحسين الخدمات واحترام الخصوصيات الثقافية (مثل تدريس اللغة الكردية كلغة محلية)، مع الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها.
ويقول: “برأيي الشخصي، الفيدرالية وصفة للانقسام، بينما اللامركزية جسر للوحدة وإعادة الإعمار”.
بين الفيدرالية واللامركزية، أي طريق لسوريا؟
وتتقاطع آراء حاج يحيى وبكور عند نقطة محورية: الفيدرالية كما تُطرح اليوم في سوريا ليست مشروعًا ديمقراطيًا، بل غطاء لمخططات تقسيمية تستند إلى وقائع عسكرية وتغيير ديموغرافي.
في المقابل، تبرز اللامركزية الإدارية الموسعة كخيار أكثر توازنًا، يعالج مشكلة المركزية المفرطة والتهميش، دون المساس بوحدة الدولة.
لكن نجاح هذا الخيار يتطلب إرادة سياسية حقيقية لتفعيل القوانين، وتطوير الإدارة المحلية، وضمان مشاركة فعلية للمجتمعات في صنع القرار، بعيدًا عن النزعات الانفصالية.
كما يستدعي بناء دولة مدنية عادلة وقوية، تستوعب التنوع السوري وتوظفه كعامل قوة لا كذريعة للانقسام.
ووسط كل ذلك، يبقى السؤال: هل تسلك سوريا طريق الإصلاح الإداري الذي يحافظ على وحدتها، أم تنزلق نحو مشاريع تقسيمية مموهة بشعارات “الفيدرالية”؟