حقّقت مبادرة «ابن البلد» أصداءً إيجابية في منطقة جبلة بريف اللاذقية بعد محاولتها خلق مساحاتٍ لتعزيز السِّلم الأهلي ونبذ الخطاب الطائفي، عبر تدخلاتٍ ميدانية سريعة وبرامج اجتماعية وتعليمية أعادت بعض الطمأنينة إلى الشارع المحلي.
يشرح مهيار بدرا، مؤسّس ومشرف مبادرة “ابن البلد” وهو مقيم خارج البلد وناشط في الشأن المجتمعي منذ بداية الثورة، أنّ الحملة وُلدت في لحظةٍ دقيقة أعقبت “معركة الفلول” وما رافقها من ردّات فعل عنيفة وخطاب مشحون.
قبل ذلك، كان الفريق قد أعاد تفعيل لجان التنسيق المحلية في مدينة جبلة وريفها—وهي اللجان نفسها التي نشطت في سنوات الثورة—وسعّى إلى تنظيمها وتوسيع قاعدتها والسير بإجراءات الترخيص.
ضمّت المجموعات نحو 180 شابًا وصبية من نخب المدينة، هدفهم تنظيم العمل الأهلي لتطوير جبلة. لكن، وبسبب الاستقطاب الطائفي الحاد آنذاك، تقرر تجميد اللجان والانتقال إلى مقاربةٍ مختلفة أقلّ احتكاكًا وأكثر مباشرة مع الناس.
من هنا انطلقت حملة «ابن البلد»، باتفاقٍ وتنسيق مع الصيدلاني أيهم صبيح، وكانت الأولوية لخطواتٍ عملية تُعيد الطمأنينة إلى الشارع: استعادة السيارات المسروقة، مساندة العائلات الثكلى في دفن ضحاياها، وتأمين نقل الجرحى عبر سيارات الإسعاف بالتعاون مع الدفاع المدني.
ويؤكد بدرا لمنصة سوريا 24 أنّ العمل كان “أفقيًا” دون أي تمييز، حتى أنّ فرق المتطوعين شاركت في انتشال الجثامين ونقلها من الشوارع عندما لزم الأمر.
في الشقّ الإغاثي، انطلقت أول حملة لدعم الأسر الأشدّ فقرًا بصيغةٍ رمزية لكسر الحواجز: متطوّعتان (علوية وسنيّة) تتولّيان توزيع تبرعات نقدية، بحيث تُسلّم العلوية المبالغ للعائلات السنية، والسنية للعائلات العلوية.
يقول بدرا: “حاولنا فرض حالة من السِلم الأهلي… ولله الحمد نجحنا”. ثم جاءت حملة “جسور واحد” لدعم طلاب الشهادة الإعدادية أمام المراكز الامتحانية عبر توزيع الورود والبطاقات التشجيعية والأقلام والمياه والضيافة، وقدّم الفريق نموذجًا مبهجًا للتطوّع المنظّم.
عقب تفجير الكنيسة في دمشق، نظّمت المبادرة وقفة تضامنية جمعت سُنّة وعلويين ومسيحيين “في مشهدٍ كسر تابوهات مغلقة»”، على حدّ وصف بدرا.
ومع فحوص الشهادة الثانوية برزت شكاوى الأهالي من غلاء المعيشة وحاجة الطلاب لوسائط نقل، إضافة إلى مخاوف من قدوم سكان الريف بسبب أحاديث عن خطف واعتقال.
هنا تحرّكت المبادرة مع مديرية المنطقة ومديرية النقل، وبمشاركة الدكتور أمجد سلطان (مدير المنطقة)، لتسيير حافلات نقل مجانية بمرافقة من القوات الحكومية.
يوضح بدرا أنّه “لم تُسجَّل حالات خطف أو اعتقال، واستطعنا إيصال رسالة أنّ الدولة تحمي الجميع”، لافتًا إلى أنّها كانت السابقة الأولى من نوعها منذ عهد النظام البائد، حيث جرى تشغيل 12 باص نقل داخلي إضافةً إلى عددٍ من الميكروباصات.
وبعد الصدى الإيجابي لحملات “جسور”، انتقلت المبادرة إلى نشاطٍ تفاعليّ جديد في منتجع وادي الملوك: استقبال طلابٍ من مدرستين—إحداهما علوية والأخرى سنّية—واصطحاب 30 طالبًا سنّيًا وعددٍ مماثل من العلويين في برنامجٍ مشترك من الأنشطة، ما حقّق وقعًا إيجابيًا في المجتمع.
ثم جرى تكريم المتفوّقين في الشهادة الإعدادية، مع إضاءةٍ خاصة على الحالات ذات الاحتياجات الخاصة من الطائفتين. ويشير بدرا إلى أنّ بعض المنظّمات ظهرت لاحقًا بأساليب طائفية “أسهمت في تعزيز الانقسام”، لكن “ابن البلد”—بحسب قوله—نجحت في كسر هذه الحالة.
تمويل المبادرة مرن وشعبي: لا دعم ثابتًا، بل تبرعات من الداخل السوري مصدرها أصحاب الدخل المحدود وأصحاب المحال الصغيرة (مكتبات، أفران، مشاتل ورود) وتجار يقدّمون الماء، مع مساهمات نقدية لتغطية أجور التنقّل.
كثيرًا ما تلعب المبادرة دور الوسيط بين المتبرّع والمحتاج؛ “غير مرّة طلب منّي متبرّع علوي أن تصل مساعدته إلى أسرة سنية، والعكس صحيح”، يقول بدرا، في إشارةٍ إلى منسوبٍ لافت من الثقة المتبادلة.
لا يخلو الطريق من صعوبات: محاولات التشويه والإفشال من بعض “الفلول” أو من أصحاب الخطاب الطائفي، وتحريضٌ طال متطوّعين.
لكن حدّة الخطاب خفّت مؤخرًا، و—بحسب بدرا—كان تعاون الدولة والحكومة عاليًا؛ إذ جرى التصدّي الفوري لحالات ابتزاز أو اعتداء من بعض القائمين على الحواجز.
ويخلُص بدرا إلى أنّ النجاح جاء من المشاركة وجرأة مغادرة الخطاب الطائفي نحو الشراكة مع الآخر: “يفترض أن نتعامل مع الجميع كشركاء. المطلوب خطابٌ يجرّم الطائفية، وتفعيل قانون الجريمة الإلكترونية، ووضع أرقام للتواصل والتبليغ. بهذه الأدوات نستطيع النجاة”.
بدوره، يؤكد أيهم صبيح (شريكٌ مؤسِّس في «ابن البلد» ومن أبناء الطائفة العلوية) لمنصة سوريا 24 أنّ التعاون الذي حظيت به المبادرة كان “مُبهِرًا إلى أقصى حد” على المستويات الأمنية والاجتماعية والأهلية.
أمنيًا، يقول إن مؤسسات الدولة—الأمن العام وإدارة المنطقة ومديرية النقل—تكاتفت لتأمين نقل الطلّاب وتسهيل أنشطة الفريق وضمان سلامة التحرّكات.
اجتماعيًا، يلفت صبيح إلى أنّ وجهاء المدينة من الطائفتين أسهموا في إيصال رسالةٍ واضحة للطرفين معًا: العيش المشترك والتآخي.
ويقرّ بوجود استهجانٍ محدود لدى قلّة من الجانبين في البدايات، “لكنّه انحسر سريعًا أمام النتائج الملموسة على الأرض”، ويشدّد صبيح على أنّ “ابن البلد” كانت من أوائل المبادرات التي جمعت السُّنّة والعلويين والإخوة المسيحيين على موقفٍ واحد في الوقفة التضامنية مع شهداء الكنيسة، بما عزّز صورة الشراكة المدنية العابرة للانتماءات.
من جهتها، تقول نجد مرعب، مدرّسة لغة عربية ومتطوّعة في المبادرة، لمنصة سوريا 24 إن الدافع كان إنسانيًا بحتًا: “كنّا بحاجة إلى ما يعيد الثقة بين الناس، خصوصًا بين الريف والمدينة. ركّزنا بدايةً على الطلاب لأنهم الأكثر تأثرًا بالمناخ المشحون، ورسالتنا كانت بسيطة ومباشرة: نحن أبناء بلد واحد”.
وتشرح اختيار الاسم: “ابن البلد عنوان جامع يتجاوز الهويات الفرعية—سنّي، علوي، درزي، مسيحي—فالمرجعية الأولى هي الإنسان”.
وتلفت مرعب إلى أن أثر المبادرة كان نفسيًا واجتماعيًا معًا: “الدعم المعنوي وتبادل المبادرات الصغيرة كسرا الحواجز أسرع من أي خطاب؛ الهدف نزع الفتنة وترسيخ التسامح والاعتراف بآلام الجميع بعيدًا عن منطق الانتقام”.
وعن فريق العمل تقول: “التنوّع قوّتنا: شباب وصبايا، رجال ونساء، من خلفيات وأعمار مختلفة. انطلقنا من مقرّ بسيط في صيدلية الدكتور أيهم، لكنه تحوّل إلى نقطة إشعاع لمبادرات ذات صدى”.
وتختم حديثها بالقول: “المحبّة مفتاح، والدعم النفسي طريق. نريد أثرًا طويل الأمد يصنع جيلًا يعرف قيمة العدل ويدرك أن العدل لا يُبنى بالكراهية”.