“لو أمكنكم أن تعيدوني إلى زنزانتي في المعتقل حتى لو كنت وحدي، فالتأقلم مع حياة الناس مرة أخرى أمر صعب، ولا أجد من ينصفني”.
بهذه الكلمات وصفت ميساء الحسن (32 عاماً) من ريف إدلب، والناجية حديثاً من سجون الأسد، الأسابيع الأولى التي أعقبت خروجها من سجن عدرا في كانون الأول/ديسمبر 2014، بعد سقوط نظام الأسد ودخول قوات المعارضة إلى دمشق.
كان شعورها أقرب إلى الضياع والانفصال عن الواقع، حتى تمنت العودة إلى زنزانتها التي ألفتها قسراً. غير أن ملامح حياتها سرعان ما بدأت تتغير لاحقاً.
وجع التأقلم بعد السجن
يشكّل تأقلم الناجي من الاعتقال مع محيطه الاجتماعي تحدياً قاسياً، إذ يسلب السجن من المعتقل إنسانيته ويغيب حسّه الاجتماعي.
يضاف إلى ذلك حلم العدالة، إذ يتطلع الناجون لرؤية سجانيهم خلف القضبان محاسَبين على ما ارتكبوه من جرائم. حلمٌ يراود أيضاً ذوي المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، والذين تقدّر المنظمات الحقوقية أعدادهم بما يقارب نصف مليون شخص.
قضت ميساء عشر سنوات متنقلة بين الأفرع الأمنية والسجون. اعتُقلت في 14 نيسان/أبريل 2014 على حاجز للمخابرات بدمشق، قبل أن تُنقل بين فرع الميسات، فرع الفيحاء، وأخيراً سجن عدرا، حيث أُدينت بتهم ملفقة تتعلق بالإرهاب بعد أن انتُزعت منها اعترافات تحت التعذيب.
تقول ميساء لمنصة سوريا 24: “تم شبحي وتعليقي لساعات طويلة، وعشت شهراً كاملاً من الصعق بالكهرباء والشتائم. لم يكن هناك طعام كافٍ ولا فراش، وكان مجرد صوت خطوات السجّان كفيلاً بإثارة الرعب في قلوبنا”.
ندوب لا تزول
خلفت سنوات الاعتقال ندوباً نفسية عميقة لدى ميساء؛ إذ فقدت صلتها بمفردات الحياة الطبيعية من أسرة وأصدقاء وجيران. حتى عند خروجها، استغرقت أسابيع لتعتاد على مناداة والدتها بكلمة “أمي”.
وبرأيها، فإن السبيل لمساعدة الناجين يكمن في تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة، بما يعيد لهم جزءاً من كرامتهم وحقوقهم المهدورة. لكن الطريق إلى العدالة ما يزال غامضاً، إذ تجهل ميساء كيفية رفع دعاوى أو الجهة المسؤولة عن إنصافها.
صوت القانون
توضح المحامية هدى سرجاوي، المختصة بالقانون الدولي خلال حديثها لمنصة سوريا 24 أنّ: “القانون يمنح ضحايا التعذيب حق مقاضاة الحكومات أو الجهات الأمنية التي ارتكبت جرائم بحقهم. حتى في القانون السوري، المادة 391 من قانون العقوبات تجرّم التعذيب، لكنها بقيت معطلة”.
وتشير سرجاوي إلى أن النظام استخدم قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب كغطاء لاعتقال مئات الآلاف، معتبرة أن ما ارتُكب يمكن تصنيفه كـ جرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي.
ومع ذلك، ترى أن مقاضاة مرتكبي الانتهاكات لن تكون متاحة بسهولة في المدى القريب، مطالبة بإنشاء لجنة وطنية مختصة بقضايا المعتقلين والناجين.
بين العزلة والدعم المجتمعي
إلى جانب الجرح النفسي، يواجه الناجون تحديات اقتصادية خانقة. تقول ميساء:”خرجت من المعتقل لأجد أمي تعيش ضائقة مالية. بحثت عن عمل يؤمّن لنا قوت يومنا لكن الأمر كان في غاية الصعوبة”.
غياب الدعم الرسمي دفع الناجين إلى تأسيس روابط وجمعيات لمساندة بعضهم البعض. من أبرزها رابطة الناجيات السوريات التي أسستها معتقلات سابقات عام 2021، لتصبح اليوم مظلة تضم أكثر من 120 ناجية. تقول مديرتها ولاء العاقل: “هدفنا تأمين الحد الأدنى من الدعم للناجيات، سواء عبر مساعدات مادية أو تعزيز العلاقات الاجتماعية بينهن، وهو ما ساعد كثيرات على استعادة بعض القوة”.
من الألم إلى الأمل
داخل نشاطات الرابطة، التقت ميساء بأحمد (28 عاماً)، المعتقل السابق في صيدنايا.
جمعت بينهما معاناة مشتركة تحولت إلى رابطة زواج. يقول أحمد: “خرجت من السجن معاقاً جسدياً وبلا هدف. حين التقيت بميساء صار لي سبب لأعيش”.
اليوم، يعمل أحمد على بسطة صغيرة في ريف إدلب، بينما تحاول ميساء بناء حياة جديدة. كلاهما يرى أن الزواج وفّر لهما ملاذاً نفسياً في مواجهة مجتمع لم يعايش أهوال المعتقل.
رغم محاولات التأقلم، يظل السؤال المؤرق بالنسبة لميساء وأحمد ومعهما آلاف الناجين: متى ستُفتح أبواب المحاكم ليُحاسب الجلاد، ويستعيد الضحايا جزءاً من حقهم الضائع؟