إيرادات قياسية ووعود حكومية: بين خطاب مكافحة الفساد وتحديات الواقع السوري

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص - سوريا 24

أثار تصريح وزير المالية السوري، محمد يسر برنية، حول تفوّق الموارد على حجم الإنفاق وارتفاع الإيرادات الجمركية بأكثر من عشرة أضعاف، تفاعلًا واسعًا في الأوساط الاقتصادية والإعلامية. وبينما رأى فيه البعض تحوّلًا في الخطاب المالي الرسمي نحو الشفافية والإصلاح، طرح آخرون تساؤلات مشروعة حول واقعية الأرقام، ومصادر الفائض، وآليات انعكاسه على الحياة اليومية للمواطنين.

خطاب مالي جديد: فائض دون تمويل خارجي

في حديثه إلى قناة الإخبارية السورية، قال وزير المالية محمد يسر برنية إن “حجم الموارد الحالية يفوق حجم الإنفاق”، مشيرًا إلى أن الزيادة في الإيرادات جاءت بشكل رئيس نتيجة مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية. وأوضح أن “موارد الضرائب الجمركية ارتفعت بأكثر من عشرة أضعاف مقارنة بما كانت عليه في زمن النظام البائد، بحيث باتت الحكومة تجني خلال شهر واحد ما كان يُجنى سابقًا خلال عام كامل”.

وأكد الوزير أن هذا التحسّن سينعكس قريبًا على سلسلة الرواتب والأجور، لا سيما في قطاعي الصحة والتعليم، ما من شأنه تحسين مستوى معيشة العاملين وتخفيف الأعباء عنهم. وأضاف أن الزيادة موّلت بالكامل من إيرادات الحكومة، وأن خزينة الدولة لم تدخلها أي أموال خارجية حتى الآن.

تفوق الإيرادات بسبب سقوط منظومة الفساد

من جهته، رأى الصحفي مصطفى السيد أن “لأول مرة في تاريخ سورية، حجم الإيرادات الحكومية أكبر من حجم الإنفاق”. وطرح تساؤلًا مركزيًا: “من أين أتت زيادة الإيرادات الحكومية والسوريون لم يبدأوا بالعمل بعد؟”

وأجاب السيد: “هذا السؤال إجابته واضحة للسوريين جميعًا؛ فالحواجز العسكرية التي اختفت مع تحرير المناطق السورية من سلطة النهب، توقفت مع تبخّرها حصتها من الفساد، التي كانت تقدّر بأكثر من 20% من الدخل الوطني”.

وأضاف: “ومع سقوط نظام الأسد، توقفت بشكل أوتوماتيكي منظومة الفساد الصغير التي كانت تديرها حكومة النهب طوال أكثر من خمسين سنة، وأصبح الموظف يعرف جيدًا أن أي محاولة ابتزاز للمواطنين ستكون عواقبها وخيمة، لأن منظومة الحكم الجديدة تعلن أن الحرب على الفساد ستتواصل حتى بناء قواعد الحكم الرشيد”.

وأشار إلى أنه “قبل سقوط نظام النهب، كانت سوريا تحتل المرتبة 177 من أصل 180 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 (درجة 13/100)، مع انتشار الرشوة فوق الطاولة، والمحسوبيات، والاختلاس في مختلف قطاعات الدولة”.

وتابع: “تبذل حكومة العهد الجديد جهودًا أوسع لمكافحة الفساد الصغير، حيث أطلقت الحكومة السورية الجديدة خطة شاملة لمكافحة الفساد، مدعومة بإعادة هيكلة الهيئات الرقابية”.

وأوضح: “ومع بدء عمل الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، تمّت إعادة هيكلة الهيئة، وتركزت عملية إعادة الهيكلة على تحديث الإطار القانوني، والبدء بأتمتة العمليات الرقابية لضمان السرعة والجودة، وإنشاء مديريات جديدة لدعم وتحسين الأداء الميداني، بهدف تعزيز الرقابة على المؤسسات الحكومية، وتطبيق القانون، ورفع جودة الخدمات الحكومية”.

وأشار إلى أن “الهيئة دعت الوزارات وكافة السوريين للمشاركة في الإبلاغ عن الفساد مع ضمان حماية الشهود والمبلّغين، وإطلاق منصة إلكترونية للشكاوى باتجاه تحويل المنظومة إلى نظام رقمي كامل”.

واعتبر السيد أن “مع تزايد دور الإعلام المجتمعي ووسائل التواصل الاجتماعي ومناخ الحرية النسبي، أصبح بإمكان المواطن السوري الإعلان عن مواضع الفساد، وأصبحنا نشاهد مقاطع فيديو مسرّبة لموظفين يتلقون الرشوة ويتمّ محاسبتهم فورًا من قبل إدارتهم الجديدة، وجاء نشر هذه المشاهد ومحاسبة المرتكبين بسرعة خطوة فعالة في كسر شوكة الفساد وتقلّص الارتكابات”.

بعض المؤسسات لم تصلها بعد موجة النزاهة

ورغم ذلك، شدد مصطفى السيد على أن “القليل من الموظفين الفاسدين ما زالوا يقايضون المواطنين على كلفة الزمن، وبخاصة موظفي وزارة التعليم العالي، التي ما زال موظفوها يمارسون أبشع حالات الابتزاز مع أساتذة الجامعات الذين عارضوا الأسد”.
كما انتقد السيد وزارة الإعلام السورية، قائلًا: “ما تزال وزارة الإعلام السورية تمارس أنواعًا من الابتزاز والإقصاء تجاه الصحفيين السوريين الذين فرّوا من سوريا في عهد الطاغية، وتعمل وزارة الإعلام في العهد الجديد بذات الطريقة البيروقراطية التي كانت معتمدة في العهد البائد، مبتعدة عن حقوق الصحفيين الذين تركوا أعمالهم نتيجة قمع النظام السابق، ولسان حال وزارة الإعلام مع الصحفيين الذين انشقوا يتعامل بذات الضمير الفاسد والآليات التي كان يعتمدها نظام الأسد المخلوع”.

التصريحات إيجابية نظريًا لكنها تحتاج إلى تفسير عملي

من جهته، قال الأكاديمي والخبير الاقتصادي عبد الناصر الجاسم إن “مجرد صدور تصريحات عن مسؤول حكومي رفيع المستوى تتحدث عن مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، يمثل خطوة إيجابية ورسالة طمأنة، خاصة في ظل قناعة شائعة لدى السوريين في الداخل والخارج بأن الفساد ما زال قائمًا، وأن المحسوبيات مستمرة”.

وربط الجاسم بين هذه التصريحات ووعود زيادة الرواتب وتحسين الوضع المعيشي، واصفًا إياها بأنها “تحمل طابعًا مشجعًا على المستوى النظري”، لكنه شدد على أن “الأمر يتطلب تفصيلًا عمليًا”.

وتساءل: “هل جاءت الزيادة في الإيرادات نتيجة مكافحة التهريب وتحسين الجباية عبر سياسة عادلة، أم أنها ناجمة عن فرض ضرائب ورسوم جديدة تُثقل كاهل المواطنين؟”

وأكد أن “المقارنات مع مرحلة النظام السابق غير دقيقة وغير منصفة”، مشيرًا إلى أن “التحليل الاقتصادي يجب أن ينطلق من الواقع الراهن والأرقام الحالية”.

وأشار إلى أن “الفائض بين الإيرادات والإنفاق ليس دائمًا مؤشرًا إيجابيًا، إذ قد يُخفي وراءه قصورًا في خطط الإنفاق الاستثماري والخدماتي”.

الرسائل سياسية أكثر من كونها إنجازًا اقتصاديًا

أما الأكاديمي والخبير الاقتصادي عبد المنعم الحلبي، فرأى أن “تصريحات الوزير أقرب إلى رسائل سياسية تهدف إلى طمأنة الرأي العام، أكثر مما هي مبنية على أرقام وإحصائيات موثوقة”.

واعتبر أن “غياب السلطة التشريعية، وعدم وجود قانون أساس للموازنة، يضعف من مصداقية هذه التصريحات، تمامًا كما كان الحال في تصريحات سابقة لحاكم مصرف سوريا المركزي حول ‘التعويم المدار’، والتي افتقدت – حسب تعبيره – إلى الحد الأدنى من البنية الإحصائية والبرمجية”.

وأشار إلى أن “الفائض في الإيرادات قد لا يكون ناجمًا عن تحسن اقتصادي حقيقي، بل عن تخفيض النفقات”، موضحًا أن “الحكومة جمّدت رواتب نحو 600 ألف موظف عسكري ومدني بشكل نهائي، وخفضت مخصصات الجيش والأمن والشرطة، إضافة إلى تقليص الدعم الموجّه للوقود والطحين بعد تحرير أسعار السلع”.

وأكد أن “بعض التحسينات ظهرت على المستوى العام، مثل تنظيم المرور والاستعانة بخبرات الضباط المنشقين في وزارة الداخلية، لكنها تظل محدودة أمام الأعباء الاقتصادية المتزايدة”.

وأوضح أن “عشرات الورش الصغيرة أغلقت أبوابها نتيجة اضطراب الاستيراد، وأن كثيرًا من الأسر باتت تبحث عن أعمال هامشية للبقاء”.

كما انتقد الحلبي “طريقة الحكومة في تسويق المساعدات الخارجية أو الإيرادات الطارئة على أنها إنجازات”، مشيرًا إلى أن “وزارات الاقتصاد والطاقة والمالية تتقن هذا الأسلوب”.

وختم بالتأكيد على أن “الإنجاز الحقيقي يجب أن يظهر عبر إحصاءات رسمية دقيقة وخطط إنفاق واضحة، وأن ينعكس مباشرة على حياة المواطنين اليومية، وهو ما لم يحدث بعد، باستثناء بعض التحسّن في ملف الكهرباء”.

تحوّل في الخطاب مع مخاوف تضخمية

من جهته، قال الأكاديمي والمستشار المالي والإداري د. عمر محمد إن “تصريحات الوزير تحمل تحولًا مهمًا في الخطاب الرسمي تجاه إدارة المال العام، إذ إن الإشارة إلى أن الموارد الحالية تفوق الإنفاق، تمثل تحولًا جوهريًا في بلد عانى لسنوات من عجز مالي مزمن وتضخم مفرط وانكماش اقتصادي”.

واعتبر أن “الفائض، إن صح، يعكس تحسنًا في كفاءة التحصيل الضريبي، خصوصًا في القطاع الجمركي الذي شهد نموًا كبيرًا”، موضحًا أن “هذا النمو يرتبط بالنشاط الاقتصادي الجديد الذي يشهده البلد بعد الحرب، من خلال عودة أبنائه من الخارج، وانتعاش القطاع العقاري، وحركة الاستيراد الاستهلاكي التي كانت سابقًا مثقلة بالإتاوات المفروضة من الميليشيات المحلية والإيرانية والروسية”.

ورغم وصفه لجهود مكافحة الفساد بأنها “متواضعة”، رأى أنها “ساهمت في هذا التحسن”.

وأشار إلى أن “اعتماد الإيرادات على موارد داخلية دون دعم خارجي يعزز من فكرة الاستقلال المالي”، لكنه حذر من “تحديات الاستدامة في ظل غياب الاستثمارات الأجنبية وضعف الدعم الدولي لقطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية، خاصة مع وصول معدلات الفقر إلى نحو 90%”.

وتطرق إلى وعد الوزير برفع رواتب العاملين في قطاعي الصحة والتعليم، واصفًا الخطوة بـ”الإيجابية”، لكنه حذر من “مخاطرها على التضخم إذا لم تترافق مع إصلاح شامل في هيكل الإنفاق وزيادة الإنتاجية”.

وأكد أنه “ضد رفع الرواتب المباشر، ويفضل تخفيض أسعار الوقود والمواد الأساسية كالخبز والأرز، باعتبارها أكثر تأثيرًا على معيشة كل الأسر السورية”.

وختم بالقول: “إن التصريحات تمثل توجهًا نحو إصلاح مالي تدريجي قائم على الشفافية والشراكة مع القطاع الخاص، لكن نجاحه يتوقف على قدرة الحكومة على مكافحة الفساد، وتوسيع قاعدة الإيرادات، وتحقيق نمو اقتصادي حقيقي ينعكس على حياة المواطنين”.

مقالات ذات صلة