وصل وفد روسي رفيع المستوى، يوم الثلاثاء، إلى العاصمة السورية دمشق، في زيارة وُصفت بأنها بالغة الأهمية من حيث التوقيت والمضمون، لبحث ملفات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع القيادة السورية.
وأفادت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” بأن الوفد يرأسه نائب رئيس الحكومة الروسية ألكسندر نوفاك، ويضم كلاً من وزير البناء والإسكان والخدمات العامة إيرك فايزولين، ونائب وزير الدفاع يونس بيك يفكوروف، ونائب وزير الخارجية سيرجي فيرشينين.
تأتي هذه الزيارة بعد سلسلة لقاءات رفيعة بين مسؤولين سوريين وروس، أبرزها زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو أواخر تموز/يوليو الماضي، حيث رافقه وزير الدفاع ومدير الاستخبارات السورية.
وحظيت تلك الزيارة بأهمية خاصة، بعد أن استقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مؤشر على عمق الاهتمام الروسي بالعلاقة مع دمشق.
علاقات تاريخية ذات حسابات استراتيجية
المختص بالشأن الروسي، الدكتور محمود الحمزة، أكد في حديث لمنصة سوريا 24، أن “العلاقات السورية – الروسية هي علاقات تاريخية وقديمة، لكنها في الأصل مبنية على مبدأ أن روسيا تريد كسب سوريا إلى جانبها، واستخدام رضا سوريا لتقوية موقفها السياسي في المنطقة، بحيث تكون سوريا قاعدة لها في الشرق الأوسط”.
وأضاف أن هذه الرغبة دفعت موسكو إلى التدخل العسكري المباشر عام 2015، “وارتكبت جرائم بحق الشعب السوري كله، من أجل تثبيت مكانتها في العلاقات الدولية، على أساس نظام التعددية القطبية، أي أن روسيا دولة مهمة ومؤثرة، ويجب أن يُؤخذ موقفها بعين الاعتبار”.
زيارة نوفاك ودلالاتها
يرى الحمزة أن إيفاد نائب رئيس الحكومة الروسية ألكسندر نوفاك إلى دمشق يحمل دلالات خاصة، لكونه مسؤولاً عن قطاع الطاقة ويرأس اللجنة الحكومية المشتركة التي تتعاون مع قطر والسعودية وعدد من الدول العربية والأجنبية، وربما مع تركيا أيضًا، ما يعكس أهمية إرساله إلى دمشق. وأوضح أن الزيارة تأتي استكمالاً لنتائج زيارة وزير الخارجية السوري إلى موسكو، حيث جرى التفاهم على إنشاء لجنتين حكوميتين مشتركتين: إحداهما للتعاون الاقتصادي، والأخرى للتعاون الأمني والعسكري، مشيراً إلى أن الوفد الروسي جاء لمتابعة هذه النتائج مع رفع مستوى التمثيل.
وكشف الحمزة أن هناك اتفاقاً بين الطرفين على مراجعة كافة الاتفاقيات السابقة، التي رأى أن معظمها لم يكن في مصلحة سوريا ويمس بسيادتها، مثل اتفاقية ميناء طرطوس التي تتضمن تجاوزات كبيرة لحقوق سوريا كدولة مستقلة، وهو ما يفسر تنوع اختصاصات الوفد الروسي بهدف مراجعة هذه الملفات.
رسالة سياسية ودعوة للقمة
أوضح الحمزة أن الهدف الأبرز من زيارة الوفد الروسي إلى دمشق سياسي بالدرجة الأولى، قائلاً: “أهم ما في الزيارة هو دعوة الرئيس أحمد الشرع لحضور القمة العربية – الروسية في موسكو منتصف أكتوبر المقبل، بحضور عدد كبير من القادة العرب. الروس يريدون من ذلك هدفاً إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً، لتأكيد أنهم غير معزولين ولديهم علاقات ممتازة مع العالم”.
علاقات على أسس جديدة
وحول مستقبل العلاقات بين البلدين، قال الحمزة: “العلاقات الروسية – السورية ضرورية بالشكل الذي يخدم المصالح الوطنية السورية، والمبنية على الاحترام المتبادل، واحترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها. وقد أكد نائب رئيس الوزراء الروسي في دمشق أننا نريد بناء علاقات على أسس جديدة، بينما قال وزير الخارجية السوري: من المفيد أن نفتح صفحة جديدة مع روسيا، على أساس الاحترام المتبادل والتعاون الصادق”.
ولفت إلى أن “هدفنا الآن هو خدمة المصلحة الوطنية السورية والشعب السوري، وليس خدمة السلطة. في أيام الأسد، كان كل شيء مكرساً لخدمة سلطة الأسد، أما الآن فالعلاقات مع سوريا أصعب، لأن الروس يجب أن يخدموا مصالح الشعب السوري، وإلا فستكون العلاقات معقدة”.
الغرب ليس خياراً وحيداً
أكد الحمزة أن روسيا قادرة على لعب دور مؤثر في سوريا عبر وجودها العسكري وقنواتها الدبلوماسية في مجلس الأمن، مشيراً إلى أن العلاقات الروسية–العربية ضرورية لخلق توازن جيوسياسي في مواجهة النفوذ الغربي الداعم لإسرائيل. واعتبر أن تنويع الشراكات مع موسكو وبكين ونيودلهي وأنقرة خيار مهم لتخفيف الهيمنة الغربية وعدم الارتهان لها.
سياق الزيارة
وتعد هذه الزيارة الثانية لمسؤول روسي رفيع إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد، إذ كان الممثل السابق للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، قد زار العاصمة السورية دمشق في 29 كانون الثاني/يناير الماضي، والتقى بالرئيس السوري أحمد الشرع.
لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة
من جهته، قال الكاتب والمحلل السياسي، الدكتور باسل أورفه لي، في حديث لمنصة سوريا 24: تنطلق القيادة السورية من قاعدة سياسية ثابتة مفادها أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، إنما مصالح.
وأضاف: “تضرب سوريا بانفتاحها على موسكو عصفورين بحجر واحد، ويبدو أن العلاقة تتجه نحو شراكة استراتيجية أكثر منها علاقات عابرة، نظراً لأن روسيا قوة عظمى يمكن أن تكون نصيراً لسوريا في مجلس الأمن، فلا يُمرر قرار ضدها، وتساهم في رفع ما فُرض سابقاً. كما أن العلاقات الممتازة مع روسيا تتيح تجنب الوقوع في المحور الغربي الداعم لإسرائيل بشدة، وتتيح أيضًا الاستفادة من العلاقة الجيدة بين موسكو وأنقرة في دعم سوريا بمختلف المجالات”.
وتابع: “تمسك روسيا بورقة بشار الأسد وقيادات مهمة من نظامه، ولها تأثير جيد في حاضنة النظام السابق، وإقامة علاقات قوية معها قد يتيح تسليم الأسد للعدالة السورية، وعدم تقديم أي دعم للفلول المتمردة في الساحل”.
وأكد أن: “تنويع مصادر تسليح الجيش السوري، وهو قيد الإنشاء، ضروري جداً، وروسيا مصدر مهم للتسليح عالمياً”.
وبذلك، تحمل الزيارة الحالية أبعاداً تتجاوز الجانب الثنائي، لتؤكد أن روسيا لا تزال ترى في سوريا نقطة ارتكاز مهمة في استراتيجيتها الإقليمية، رغم انشغالها بالحرب في أوكرانيا وتداعياتها. لكن الأهمية الحقيقية تكمن في ما إذا كانت هذه الزيارة ستترجم إلى تفاهمات عملية تعيد صياغة العلاقة على أسس جديدة، تراعي مصالح الشعب السوري لا مصالح السلطة وحدها.
فالمرحلة المقبلة ستكون اختبارًا جديًا لقدرة موسكو ودمشق على الانتقال من الشعارات إلى التنفيذ، سواء عبر مراجعة الاتفاقيات المثيرة للجدل، أو من خلال بناء شراكات اقتصادية وعسكرية أكثر توازنًا. في المقابل، يبقى السؤال: هل ستتمكن سوريا من استثمار هذه العلاقة بما يخدم استقلالها وسيادتها، أم أن موسكو ستظل تتعامل معها كورقة نفوذ في لعبة التوازنات الدولية؟