بعد ستة عقود من الغياب، عاد رئيس سوري ليخاطب العالم من منبر الأمم المتحدة. زيارة أحمد الشرع إلى نيويورك لا تحمل بعدًا بروتوكوليًا فحسب، بل تفتح نقاشًا حول مستقبل العقوبات والانفتاح الدبلوماسي لسوريا في ظل إدارة أميركية جديدة.
وصل الرئيس السوري أحمد الشرع، يوم الأحد، إلى مدينة نيويورك للمشاركة في أعمال قمة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أول ظهور لزعيم سوري على منبر المنظمة الدولية منذ ما يقارب ستة عقود.
هذه الزيارة، التي تحمل أبعادًا رمزية ودبلوماسية عميقة، تأتي في إطار مسعى دمشق لكسر عزلتها الدولية وإعادة بناء علاقاتها مع القوى الغربية والعربية بعد عقود طويلة من القطيعة في ظل حكم عائلة نظام الأسد السابق، ما يجعلها نقطة تحول رئيسية في مسار العلاقات الأميركية السورية.
الشرع، الذي يُنتظر أن يلقي خطابًا أمام الجمعية العامة خلال أيام، يدخل إلى الساحة الدولية من بوابة الحدث الأممي الأكبر، في لحظة فارقة قد تعيد ترتيب موقع سوريا في خارطة السياسة العالمية.
أبعاد دبلوماسية ورسائل مباشرة
وفي تعليق على أهمية هذه الزيارة، قال زيد علوش، عضو المجلس السوري الأميركي، في حديث لمنصة سوريا 24: “زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة هي نقطة مفصلية في تاريخ العلاقات السورية الدولية، وهي ليست مجرد حضور في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل إشارة قوية إلى تغيير في المعادلات بعد سنوات من العزلة والصراع. فبفضل هذه الزيارة، تُفتح أبواب للحوار حول العقوبات، ولإعادة بناء الثقة، والتوسع الدبلوماسي السوري تجاه الغرب”.
وأضاف علوش: “إن قدرتها على تأسيس انفتاح دولي دبلوماسي أوسع ستتوقف على مدى نجاح دمشق وواشنطن معًا في بلورة أرضية مشتركة سياسية وأمنية وإنسانية، بما يخدم مصالح الشعب السوري والاستقرار الإقليمي. باختصار، الزيارة تحمل أبعادًا رمزية واستراتيجية كبيرة، ويمكن أن تكون بداية فعلية لصفحة جديدة في العلاقات الدولية، إذا ما توفرت الإرادة المتبادلة والتطبيق العملي”.
الإصلاح الداخلي شرط الانفتاح الخارجي
من جهته، شدّد المحلل السياسي أيمن عبد النور على أن للزيارة دلالات عميقة، قائلاً في حديث لمنصة سوريا 24: “أبعاد الزيارة تعني حقيقة كبيرة، وعندما يُستخدم وصفها بأنها (زيارة تاريخية)، فهذا صحيح؛ لأنها لا تحصل كل سنة، ولا حتى كل عقد. لقد مرّ عليها تقريبًا أكثر من ثلاثة عقود دون أن تحصل زيارة كهذه، من حيث الحجم والاهتمام الكبير في وسائل الإعلام الأميركية، وظهور الرئيس السوري على برنامج “60 Minutes”، وهذا أعتقد لم يحدث من قبل”.
وتابع موضحًا: “لم يحدث مثل هذا أبدًا من قبل، حتى مع حافظ وبشار الأسد، لذلك، يجب استخدام هذا الدعم الكبير من أجل تطوير العلاقات، لكن ليس البعد الخارجي وحده هو المهم؛ فنقاط الكونغرس الست التي وُضعت كشروط لإلغاء قانون قيصر بالكامل، جميعها متعلقة بالوضع الداخلي السوري. لذلك، يجب أن تولي الحكومة والإدارة السورية اهتمامًا للوضع السوري أكبر بكثير مما توليه للوضع الخارجي”.
وفي ما يتعلق بآفاق الانفتاح الدبلوماسي، قال عبد النور: “بالنسبة للانفتاح الدولي، طبعًا هناك انفتاح كبير، فالولايات المتحدة من خلال الجهاز التنفيذي والرئيس ترامب، أعطت أوامر واضحة بإلغاء العقوبات، لكن ليست كلها ضمن صلاحيته. وقد اتصل أيضًا بأوروبا من أجل إلغاء العقوبات الأحادية الجانب المفروضة على الشعب السوري، لذلك، هناك انفتاح ليس أميركيًا فقط، بل دولي، ولا يجب أن يُقابل من الطرف السوري بالتجاهل”.
صورة مختلفة لسوريا على المسرح الدولي
أما الناشط السياسي مصطفى النعيمي فقد قدّم قراءة مختلفة، معتبرًا أن الزيارة تفتح صفحة جديدة في صورة سوريا على المسرح الدولي.
وقال في حديثه لمنصة سوريا 24: “أعتقد أن زيارة الشرع إلى واشنطن تأتي في إطار التحركات الدبلوماسية المرنة التي تنتهجها سوريا الجديدة في تعاطيها مع المنظومة الدولية، بما يحقق الاستقرار المستدام وينقلها من مرحلة (مغناطيس الإرهاب) إلى شريك استراتيجي مع الولايات المتحدة في محاربته، وهذا ما أكدته زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية إلى سوريا ولقاؤه مع الرئيس الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني، إضافةً إلى طبيعة الوفد الذي قدم إلى دمشق، إذ شكّل بحد ذاته رسالة إلى المحيط الإقليمي والدولي بأن سوريا أصبحت شريكًا استراتيجيًا، وعلى تل أبيب أن تفهم هذه الرسالة”.
واعتبر أن: “تعزيز هذه الرسائل يتطلب حضورًا سوريًا فاعلًا في واشنطن، والحضور الأخير هناك، إلى جانب نيويورك، جاء لتقديم صورة سوريا الجديدة للعالم، بأنها تجاوزت مرحلة الأسد البائد، وانتقلت إلى سوريا مستقرة تفرض نفسها على الإقليم والمنظومة الدولية، وتغدو شريكًا أساسيًا في المعادلات الدولية، كما غيّرت ملامح المنطقة، خصوصًا بعد إنهاء المشروع الإيراني في سوريا، وهو ما سينعكس إيجابًا على دول أخرى تشهد توترات، من لبنان والعراق وصولاً إلى اليمن”.
لقاءات رفيعة المستوى في نيويورك
والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، مساء الإثنين، وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في فندق “لوت نيويورك بالاس”، وذلك على هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وفي تغريدة نشرها على منصة “إكس”، قال روبيو إنه ناقش مع الرئيس الشرع “الأهداف المشتركة من أجل سوريا مستقرة وذات سيادة، والجهود المستمرة لتحقيق الأمن والازدهار لجميع السوريين”.
وأضاف: “بحثنا تنفيذ إعلان الرئيس ترامب التاريخي بشأن تخفيف العقوبات، وأهمية بناء علاقات مستقبلية بين إسرائيل وسوريا”.
وأكد روبيو أن الولايات المتحدة ترى في اللحظة الراهنة “فرصة سانحة أمام سوريا لبناء دولة مستقرة وذات سيادة”، في أعقاب القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتخفيف العقوبات المفروضة على دمشق.
الكونغرس يناقش مصير العقوبات
من جهتها، التقت السيناتور الأميركية جين شاهين، عضو مجلس الشيوخ، والنائب غريغوري دبليو ميكس، عضو مجلس النواب، الرئيس أحمد الشرع على هامش الاجتماعات نفسها، بحسب ما أفادت به لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي.
وشدّدت السيناتور شاهين خلال اللقاء على “ضرورة موافقة الكونغرس على إلغاء قانون قيصر”، مشيرةً إلى أن الأسباب التي فُرض من أجلها القانون قد انتفت.
وأكدت أن التشريع الذي تقدمت به، والحاصل على دعم الحزبين، يهدف إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ عهد النظام السابق.
كما شدّدت على أهمية “حماية حقوق الإنسان، ودفع الإصلاحات السياسية، وتعميق مشاركة سوريا مع المجتمع الدولي لمنع الجهات الخبيثة مثل إيران وروسيا من استغلال حالة عدم الاستقرار”.
واعتبرت أن “المشاركة الفعالة من مختلف الطوائف العرقية والدينية في سوريا أمر بالغ الأهمية لضمان استقرار دائم”، معربة عن استعداد الولايات المتحدة لدعم هذه الرؤية لبناء “سوريا مزدهرة وسلمية وقادرة على الصمود”.
دمشق: الحوار لتعزيز العلاقات مع واشنطن
وأفادت الرئاسة السورية بأن اللقاء مع الوفد الأميركي جرى في بعثة سوريا لدى الأمم المتحدة، حيث قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني: “سعدنا اليوم باستضافة السيناتور جين شاهين والنائب غريغوري ميكس، حيث ناقشنا بحضور الرئيس الشرع قضايا تخدم الشعب السوري وتعزز العلاقات السورية–الأميركية”.
من الرمزية إلى اختبار التطبيق العملي
تشير مجمل القراءات إلى أن زيارة الشرع للولايات المتحدة تمثل لحظة تاريخية تتجاوز الطابع البروتوكولي إلى رسم ملامح سياسية جديدة.
فبينما يراها البعض فرصة لإعادة إدماج سوريا في النظام الدولي وفتح حوار جاد حول ملفات العقوبات والاستقرار الإقليمي، يشدد آخرون على أن نجاحها يتطلب إصلاحات داخلية تسبق أي انفتاح خارجي.
ومع ذلك، فإن الزيارة بحد ذاتها تحمل دلالات واضحة: من عاصمة العالم السياسية، تحاول دمشق أن تعيد تقديم نفسها كلاعب لا يمكن تجاوزه في التوازنات الإقليمية والدولية، مستفيدة من لحظة الاهتمام الدولي المكثف.
فالشرع، بخطابه المرتقب أمام الجمعية العامة، سيواجه اختبارًا مزدوجًا: كيف يقنع العالم بجدية التحول السوري، وكيف يترجم هذه الرمزية إلى خطوات عملية تُفضي إلى فك العزلة تدريجيًا.
وفي ظل مواقف متباينة بين متفائلين بانفتاح دولي أوسع وحذرين من تضخيم الإنجازات، يبقى السؤال المركزي: هل ستفتح هذه الزيارة فعلاً الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات السورية–الدولية، أم أنها ستبقى حدثًا بروتوكوليًا محدود الأثر؟