في ركن متواضع لا يتجاوز متراً ونصف المتر على شرفة منزل في اللاذقية، بدأت الشابة عائشة طارق خشوف (22 عاماً) رحلتها مع الفن والحِرف اليدوية، رحلة حملت الكثير من المحاولات والتجارب وحتى الدموع، قبل أن تتحول إلى مشروع صغير يثبت أن الإبداع قادر على كسر كل الحواجز.
منذ طفولتها انجذبت عائشة إلى الفنون بأشكالها المختلفة، من القص واللصق إلى التلوين والرسم. وفي المرحلة الثانوية، بدأت برسم لوحات بسيطة لزميلاتها وأقربائها كهدايا تحمل أسماءهم. تقول: “لم أكن أعرف شيئاً عن الحسابات أو أساليب التسويق، كنت أشارك أعمالي فقط على حالات (واتساب)، ومع ذلك فوجئت بكم الطلبات التي تصلني”.
لكن مع دخولها مرحلة البكالوريا، توقفت عائشة عن الرسم للتفرغ لدراستها، وحصدت مجموعاً عالياً أهلها لدخول كلية الهندسة الطبية الحيوية، تحقيقاً لحلم والدها. ورغم نجاحها الأكاديمي، ظل في داخلها شغف يبحث عن ذاته.
رحلة البحث عن فن جديد
خلال سنوات الجامعة، صادفت عائشة عبر منصات أجنبية فناً جديداً لم يكن معروفاً في سوريا حينها: فن “الكونكريت”، وهو فن يعتمد على صناعة قطع ديكورية وأدوات منزلية من الإسمنت الممزوج بلمسات فنية تضفي عليها جمالية ودفئاً غير مألوف. انجذبت لهذا العالم، وبدأت تبحث بجهود شخصية عن أسراره، حتى تمكنت بعد محاولات مضنية من الحصول على قوالب السيليكون اللازمة.
تروي عائشة: “لم يكن الأمر سهلاً، أهدرت الكثير من المواد وبكيت ليالٍ طويلة حين لم أصل للنتيجة المرجوة. لكن مع الإصرار بدأت القطع تنجح شيئاً فشيئاً، وقبل عامين أنشأت صفحتي الخاصة وبدأت قصتي تتغير”.
من زاوية صغيرة إلى زبائن حول العالم
دعمت عائلة عائشة مسيرتها شرط أن تظل دراستها أولوية. ومن زاويتها الصغيرة على الشرفة، بدأت القطع تخرج واحدة تلو الأخرى، تحمل مزيجاً من البساطة والحب، حتى باتت تصل إلى مختلف المحافظات السورية، بل وتخطت الحدود إلى الكويت والإمارات وألمانيا.
ولم تكتفِ بالتصنيع، بل نظمت عام 2024 دورة حضورية لتدريب مجموعة من الشابات على فنون الكونكريت، في خطوة وصفتها بأنها “من أجمل محطات التجربة”. واليوم تستعد لإطلاق دورات تدريبية عبر الإنترنت، ما يجعلها مرجعاً في هذا الفن الناشئ داخل سوريا.
المشاريع الصغيرة… نافذة أمل في بلد منهك
تجربة عائشة تعكس الدور المتنامي للمشاريع الصغيرة في المجتمع السوري، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. فهذه المشاريع، رغم بساطتها، توفر دخلاً ثابتاً وتخلق فرص عمل وتفتح المجال أمام الشباب، لا سيما النساء، ليكونوا فاعلين اقتصادياً واجتماعياً.
إذ تسهم هذه المبادرات في تعزيز روح الاعتماد على الذات والابتكار، وتخلق ثقافة اقتصادية قائمة على الإنتاج لا الاستهلاك. كما أن فنون مثل “الكونكريت” لا تقدم مجرد منتجات، بل تمنح لمسة فنية تجعل من الأشياء البسيطة قطعاً فريدة تحمل قيمة جمالية وإنسانية.
ترى عائشة أن مشروعها الصغير لم يعد مجرد هواية، بل قصة نجاح حقيقية. تقول: “اليوم أشعر بالامتنان لتلك الفتاة التي لم تستسلم رغم قلة الإمكانيات. قطعي تصل إلى الناس لأنها ممزوجة بالحب قبل أن تكون مجرد فنون إسمنتية”، مضيفة أن حلمها هو تطوير متجرها الإلكتروني وتوسيع نطاق تدريبها ليصل إلى شابات أخريات يحلمن بخوض غمار المشاريع الصغيرة.
تبقى قصة عائشة مثالاً لآلاف الشابات السوريات اللواتي يحاولن إعادة صياغة حياتهن من بين الركام، مؤمنات بأن الفن والعمل اليدوي قد يكونان مفتاحاً للأمل والكرامة في واقع لا يخلو من التحديات.