حين قرر أحمد بنطو أن يطوي صفحة غربته الطويلة في تركيا، لم يكن يتوقع أن يعود إلى حي بالكاد يشبه ما اختزنه في ذاكرته.
عائد إلى الجذور بلا مقومات
عاد إلى حي الكلاسة في مدينة حلب، لا طلبًا لرفاهية أو راحة، بل سعيًا وراء جذور تركها قبل سنوات وحنين لم يهدأ.
غير أن الواقع الذي وجده كان أكثر قسوة مما ظن، إذ لم تكن الحرب وحدها ما غيّر الحي، بل الإهمال الذي تلاها، والغياب شبه التام للخدمات الأساسية.
كانت المياه تصل بشكل متقطع، والكهرباء تزور بيته لساعات لا تكفي لتشغيل براد أو غسالة، أما أسعار الصهاريج والاشتراكات الكهربائية فقد تجاوزت طاقته كمواطن عائد من سنوات من التعب.
يقول: “عدت إلى الكلاسة لأنني سئمت الغربة، فهنا بيتي وأهلي وذكرياتي، لكنني لم أتوقع أن أواجه كل هذه الصعوبات”.
يتابع وهو يشير إلى منزله الذي رمّمه بجهده الشخصي: “نحن لا نطلب شيئًا مستحيلًا، فقط نريد مستوصفًا صغيرًا، بعض النظافة، وكهرباء تصل بشكل منتظم. الناس صابرة، لكن في ظل هذا الواقع، يصعب أن تعود الحياة إلى طبيعتها”.
لا خدمات هنا
وعلى مقربة من دكانه الصغير، يفتح أحمد قاطع محله كل صباح، متأملًا تحسنًا لم يأت بعد، فالكهرباء، كما يصفها، لا تكاد تُذكر، والاعتماد على الأمبيرات بات عبئًا لا يطاق.
يوضح خلال حديثه لمنصة سوريا 24 أن “الكهرباء لا تصل إلا يومًا أو يومين في الأسبوع، ولساعات محدودة، أما باقي الوقت فنضطر للاعتماد على الأمبير، وندفع ما يقارب تسعين ألف ليرة شهريًا، وهو مبلغ يفوق قدرات معظم الأهالي”.
ولا تقف معاناته عند الكهرباء، إذ يشتكي أيضًا من سوء النظافة، قائلًا: “الحاويات تقف أمام المحال، والغبار يغمر البضائع، لا نكاد ننهي تنظيفها حتى تعود وتتسخ. لم نعد قادرين على العمل في هذه الظروف”.
النفايات تملأ المكان
وفي الجهة الأخرى من الشارع، يشير أحد أصحاب المحال إلى كومة من النفايات المتراكمة أمام دكانه، ويصرخ بغضب: “المكب بات في واجهة المحلات، والغبار والأوساخ لا تفارق المكان. أين هي حملات النظافة؟ أين البلدية؟ تعبنا من الشكوى ولا مجيب”.
ورغم مرور أشهر على عودة بعض العائلات، لم تُطلق أي حملة جادة للنظافة، ما جعل الشوارع تبدو مهملة وكأنها منسية.
وسط هذه المعاناة اليومية، تتكشف ملامح واقع لا يمكن تجاهله، خاصة حين تتحدث الأرقام بلغة أوضح.
أرقام ومناشدات
فبحسب ما أفاد به المختار أحمد سندة لمنصة سوريا 24، فإن عدد العائلات التي عادت إلى حي الكلاسة حتى الآن يُقدَّر بنحو ألفي عائلة من أصل عشرين ألف أسرة كانت تقطنه قبل التهجير.
يقول: “رغم رمزية هذه العودة، إلا أنها لا تزال محفوفة بالصعوبات.
الخدمات الأساسية شبه غائبة، ولا يوجد في الحي مستوصف صحي واحد”. كما أشار إلى أن المدارس الست الموجودة بحاجة إلى ترميم عاجل، في حين دُمرت ثلاث منها بشكل كامل.
يضيف: “شبكة الكهرباء متهالكة، والانقطاعات مستمرة، ما يجبر الأهالي على الاشتراك بالأمبيرات بأسعار تفوق طاقتهم”.
ويرى أن الجهود المبذولة لتحسين الوضع لا تزال خجولة ولا توازي حجم المعاناة، مؤكدًا: “الناس عادت لتبني، لا لتهمل من جديد”.
وما بين مشهد الغربة السابقة وغربة الداخل التي يعيشها العائدون اليوم، يقف حي الكلاسة شاهدًا حيًا على مفارقة مؤلمة، فالسكان الذين قرروا العودة لم يجدوا ما يكفي من مقومات العيش الكريم.
ورغم كل ما يعانونه، لا تزال في وجوههم لمحة أمل، وفي عيونهم رجاء بأن تصل أصواتهم إلى من يملك القرار، وأن تتحول الوعود إلى أفعال، والأمنيات إلى خدمات.