في 27 أيلول 2013، عند الساعة 1:15 ظهر يوم جمعة، تحوّل مسجد خالد بن الوليد في سهل رنكوس بالقلمون إلى مشهد من الرعب والفجيعة. كان المسجد مكتظاً بالمصلين من أبناء البلدة، إلى جانب ثوار ومهجّرين من حمص والقصير وبلدات القلمون الذين لجؤوا إليها باحثين عن ملاذ من آلة الموت.
يذكر الأهالي في مثل هذه الأيام قبل 12 عاماً، أنه بعد انتهاء صلاة الجمعة، وبينما خرج كثيرون من المصلين وبقي بعضهم لأداء سنة الصلاة، دوّت صدمة هزّت أركان المسجد، وخلفت دخاناً ونيراناً وأشلاء لا تُحصى.
لم يخطر لأحد أن الصوت العنيف الذي روّع الأهالي كان ناجماً عن سيارة مفخخة دخلت إلى قلب البلدة، لكن الحقائق انكشفت سريعاً أمام أعين الشهود: انفجار هائل أودى بحياة عشرات المواطنين—تُقدّر أعداد الشهداء بحوالي 75 شهيداً أو أكثر، وأصاب مئات بجروح، فيما جُمعت جثث مضرجة بالأشلاء دُفنت في أراضٍ زراعية لأن تشخيص هويات بعضها تعذّر.
رنكوس وحدها زفّت قرابة أربعين شهيداً من خيرة أبنائها، وعائلات بأكملها فقدت من غادرها. المشهد كان واحداً من أحلك صفحات القلمون في سنوات الحرب، إذ لم يُفرّق التفجير بين طفل وكهل، ولا بين شيخ وشاب.
يقول أبو النور الخطيب، أحد الذين فقدوا ستة من أولاده وأولاد إخوته في التفجير، بصوت يختنق بالألم والذاكرة: “في هذا الوقت تهجّرنا من البلدة خوفًا على أطفالنا، فهربنا بهم إلى الجرد حفاظًا على أرواحنا. يوم الجمعة ذهبنا مع إخوتي إلى المسجد وأخذنا أولادنا. بعد الصلاة بقينا نصلي سنة، وفجأة سُمع صوت قوي وتحطّم زجاج الجامع. خُطفت منا أرواحنا هناك، أُصبت في رأسي، وعمي أبو زوجتي في وجهه. عثرنا على أربعة من أولادنا جثثاً هامدة في حرم المسجد، واثنان لم نجد لهما أثراً — على ما يبدو اقتلعتهم قوة التفجير.
يكمل الخطيب بصوت تملؤه الحسرة: “حملناهم إلى المشفى الميداني لنعرف إن كانوا أحياء، لكن قدر الله انتقاهم شهداء”. دفن أبو النور الشبان في أحد المزارع، وكان عدد القتلى آنذاك نحو 75 أو أكثر.
يقول: “لم ننسَ ولن ننسى مشهد أولادنا المحترقين، والسيارات المشتعلة، وحرم المسجد الذي تحوّل إلى كتلة نار. ابني الشهيد نور الدين محمود الخطيب كان عمره 10 سنوات، وابن أخي الشهيد أسامة عبد السلام الخطيب 16 سنة، وأبناء أخي أبو النور الأربعة لم يبقَ منهم أحد: أيمن (20 عاماً)، أمجد (17 عاماً)، وسيم (15 عاماً)، والطفل أحمد (6 سنوات). هذه ليست إلا كلمات قليلة لا تغني عن الحقيقة، لكن هذه قصتنا ومن جُمل قصص الفاجعة التي حلّت برنكوس في ذلك اليوم الحزين”.
تظل شهادات الناجين شاهداً حيّاً على الألم البدني والنفسي. يروي بلال بالوش (30 عاماً)، أحد المصابين، معاناته المستمرة: “أُصبت في قدميّ، وأجريت أكثر من ثلاث عمليات. الألم لم يكن جسدياً فقط، بل نفسياً، المسجد كان ملاذنا، ويؤلمنا أن نواجه هذا التحول المرعب من مكان عبادة إلى مكان موت”.
بعد سنوات من الإغلاق والخراب، شهد المسجد مؤخراً ترميماً، وأعيد فتح أبوابه أمام المصلين، فعُقدت فيه أول صلاة جماعية بعد نحو عقد من الصمت القسري. لكن إعادة البناء لا تساوي طبعاً شفاء ذاكرة السكان: الجدران التي جُدّدت لا تمحو صور الضحايا وأصوات الصراخ، ولا تمحو أيضاً الخيبة والغضب من الذين اعتبرهم الأهالي “خونة” أو شركاء في الجريمة التي انتزعت منهم أحباءهم.
تقف رنكوس اليوم أمام مأساة تراجيدية يحتفظ بها التاريخ المحلي كدرس مرّ عن ثمن الحرية، وما لحق بالمجتمع من دمار بفعل العنف والخيانة كما يسميها أهل البلدة. يبقى المسجد شاهداً على خسارة جماعية، وعلى بطولات دفع من خلالها السكان أثماناً باهظة من الدماء. وفي ذكرى تلك الجريمة، تشتعل الذاكرة، وتُستعاد الوجوه والأسماء التي لا ينبغي أن تُمحى: نور الدين، أسامة، أيمن، أمجد، وسيم، أحمد… أسماء صغيرة وكبيرة باتت مرآة لوجع لا يندمل.
في هذا اليوم من العام، يحمل أهالي رنكوس ذكرى للضحايا وللخيانة التي أتت على حياتهم، ويحيون قصص الصمود التي خلّفها من نجوا من الألم، وتستمر الجهود لإعادة بناء ما تهدّم من جسم اجتماعي وروحي في رنكوس، وفي سائر المناطق التي تعدّت عليها آلة العنف.