في صباح الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2012، اجتاحت قوات “الفرقة الرابعة” التابعة للنظام السوري، مدعومة بعناصر من الحرس الجمهوري، وميليشيا حزب الله، وميليشيات إيرانية، حيي الجورة والقصور في مدينة دير الزور.
لم تكن تلك العملية، كما توحي بعض الروايات الرسمية، مجرد حملة أمنية محدودة، بل حملت طابع الانتقام الجماعي، وفق ما تؤكده تقارير حقوقية عدّة، من بينها اللجنة السورية لحقوق الإنسان، ومنظمة العدالة من أجل الحياة، ومشروع الذاكرة السورية.
فقد أجمعت هذه الجهات على أنّ ما جرى كان جريمة منظّمة، نُفّذت بأدوات عسكرية ثقيلة، وبمشاركة ضباط بارزين في النظام السوري، من أمثال عصام زهر الدين، وعلي الخزام، وجامع جامع.
اجتياح المنازل ونهبها بذريعة الولاء والمعاقبة
تروي الناشطة رانيا المدلجي، وهي من أهالي المدينة وشاهدة عيان على المجزرة، كيف تحوّل ذلك اليوم إلى “يوم أسود” محفور في ذاكرة دير الزور.
تسترجع تفاصيل الاجتياح، مشيرة إلى أنّ الاقتحام بدأ في حي الجورة، ثم تمدد في اليوم التالي إلى حي القصور، باستخدام الدبابات والأسلحة الثقيلة التي لم تميّز بين بيت وآخر.
وتوضح أنّ منزلها، الواقع قرب دوار الختيارة، لم يكن بمنأى عن الهجوم، إذ داهمه عناصر الميليشيات بعد أن دلّهم عليه بعض الجيران.
تقول: “دخلوا البيت، قلبوا الأثاث، سرقوا كل ما وجدوه، وانهالوا عليّ بالشتائم بذريعة صلتي بالجيش الحر، رغم أنني لم أكن أملك سوى ما يوجد في أي بيت عادي”.
وتتابع: “كان جرمي الوحيد أنني ابنة هذه المدينة التي أرادوا إذلالها وكسر إرادتها”.
الهروب من الموت
في الأيام التي تلت المجزرة، وصلتها معلومات من داخل المدينة تفيد بأنّ الأجهزة الأمنية تخطط لاعتقالها.
تقول: “بعد نحو شهر، أخبرني بعض الأهالي أنهم يخططون لمداهمة منزلي مجددًا، فهربت بمساعدة الجيش الحر. وبعد مغادرتي، عادوا ونهبوا ما تبقّى، وسكبوا المؤن في المنزل، متعمّدين إذلالنا”.
توثيق الفظائع: ذبح، حرق، وإبادة عائلات كاملة
وتستعيد أحداث المجزرة بمرارة: “لم تقتصر الجرائم على النهب. ذُبح شبان بالسكاكين، وأُحرق آخرون داخل أفران المنازل، وأُبيدت عائلات بأكملها”.
وتشير السيدة رانيا إلى أنّ الأهالي تمكنوا من توثيق نحو 500 اسم، لكن العدد الحقيقي يفوق ذلك بكثير، نظراً لوجود جثث أُحرقت أو أُخفيت، وأخرى بقيت مرمية في الطرقات لأيام بسبب القناصة.
وتصف المشهد بقولها: “المجزرة لم تستثنِ أحدًا… أطفال، نساء، شيوخ، شباب. المنازل أُحرقت بمواد خاصة أبقت الجدران قائمة بينما تحولت محتوياتها إلى رماد. لقد أصبحت دير الزور مدينة أشباح”.
وتختم شهادتها: “ما جرى كان عقابًا جماعيًا لمدينة خرجت سلمياً، أراد النظام من خلاله بث الرعب وكسر الإرادة”.
الاعتقال والاختفاء في قلب مؤسسات المدينة
من جهة أخرى، يروي الأكاديمي قاسم العاني المقيم في منفاه بفرنسا جانبًا من المأساة التي طالت عائلته خلال المجزرة.
شقيقه باسم، البالغ من العمر في حينه 37 عاماً، الذي كان يعمل في بنك الدم في حي الجورة، اضطر للنزوح مع أسرته إلى مدينة الرقة، لكنه عاد إلى دير الزور مؤقتًا ليقبض راتبه ورواتب زملائه، ويفتقد مكتبته ومحل البقالة.
يقول: “في صباح المجزرة، توضأ باسم وصلى، ثم تهيأ للرحيل. لكنه فوجئ بالقوات وهي تحاصر الحي. دخلوا بنك الدم، جمعوا الموظفين، وأجبروهم على الركوع، ثم انهالوا عليهم ضربًا”.
وحين عثر أحد العناصر على مبلغ مالي في جيبه، اتهموه بتمويل الإرهابيين، رغم أنه كان يحمل رواتب رسمية. حاول شرح الموقف وأبرز إيصالات تثبت ذلك، لكن الضابط لم يصغِ إليه، وأمر بضربه بعنف وهو يصرخ: “حسبي الله ونعم الوكيل”.
اكتشاف الجثث وتبعات الفقد على العائلات
بعد اقتياد باسم إلى مدرعة، انقطعت أخباره تمامًا، يستذكر قاسم تلك اللحظات بالقول: “حاولنا التواصل معه، لكن الاتصالات كانت مقطوعة. وبعد أيام، بدأ الأهالي بجمع الجثث من الشوارع والمنازل”.
عُثر على جثة باسم تحت درج في مدرسة قريبة من بنك الدم، وقد أُصيب برصاصة في الرأس خرجت من عينه.
يقول شقيقه: “كان وقع الخبر كالصاعقة على والدتي وأسرته. لم تره حتى قبل دفنه. رحل وترك أطفالاً صغارًا عمر، قتيبة، وليان، ووالدةً مكلومة توفيت بعد سنوات في الغربة، حزنًا وقهرًا”.
ذاكرة لا تموت وعدالة تنتظر الإنصاف
بين هذه الشهادات المؤلمة، تتكشّف ملامح جريمة شاملة لم تستثنِ أحدًا.
تقارير حقوقية متطابقة أكدت أن حصيلة الضحايا بلغت المئات، من بينهم نساء وأطفال، وأن عمليات الحرق والقتل والنهب جرت بطريقة ممنهجة، حيث أُحرقت المنازل عمدًا، ودُفنت الجثث بشكل عشوائي، أو أُخفيت.
لقد شكّلت مجزرتا الجورة والقصور نموذجًا صارخًا لجريمة ضد الإنسانية، ما زالت آثارها محفورة في الذاكرة الجمعية للمدينة، وباتت رمزًا لمأساة شعب لم يتوقف عن المطالبة بالعدالة.
فالمطالب اليوم لا تقتصر على الاعتراف، بل تمتد إلى المحاسبة والمساءلة… كي لا يُختزل دم الضحايا في ذكرى، بل يبقى شاهدًا حيًا على حجم المأساة، وضرورة ألا تمرّ هذه الجرائم دون عقاب.