تعيش ساحة المرجة في قلب العاصمة دمشق حالةً من الحركة الدائمة التي لا تهدأ منذ ساعات الصباح الأولى حتى المساء، إذ تختلط فيها وجوه المارة والباعة والمراجعين والعمال، في مشهدٍ يعكس مزيجًا من الحياة اليومية الصاخبة والضغوط المعيشية المتزايدة.
في هذه الساحة، أصبحت البسطات المنتشرة على الأرصفة مشهدًا مألوفًا وركيزةً أساسية في دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، رغم حملات الإزالة التي تنفذها البلدية بشكلٍ منتظم.
يقول أحد الباعة في حديثه لـ”سوريا 24″ إن دوريات البلدية كانت سابقًا تمرّ كل أسبوعين تقريبًا، أما اليوم فقد أصبحت تجوب الساحة كل صباحٍ ومساء بعد إعادة فتح الطريق مؤخرًا، مشيرًا إلى أن الحملات الأخيرة كانت أشد صرامة.
“قبل أيامٍ أزالت البلدية جميع البسطات المنتشرة في الساحة، لكن معظم الباعة عادوا إلى أماكنهم بعد ساعاتٍ قليلة، لأن هذه الأكشاك الصغيرة هي مصدر رزقهم الوحيد. كثيرٌ منا نزح من مناطق مثل إدلب أو ريف حلب، بحثًا عن عملٍ أو فرصةٍ للحياة.”
ويشير بائعٌ آخر إلى أن وجود البسطات في ساحة المرجة ليس جديدًا، إذ يعود إلى ما قبل سقوط النظام، حين كانت الساحة مقصدًا رئيسيًا للتجار والمسافرين والعمال. ويضيف: “في الماضي، كانت العلاقة بين الباعة والدوريات أكثر مرونة، وغالبًا ما كانت المخالفات تُتجاوز بتفاهمات أو (رشوة)، أما اليوم فإن الإجراءات أكثر صرامة، وتُصادر البسطات من دون إنذار، ما يدفع الأهالي أحيانًا إلى التدخل ومنع المصادرة.”
العمل اليومي… بين الحاجة والخطر
تضمّ ساحة المرجة عشرات البسطات التي يعمل فيها شبانٌ بأجورٍ يومية متواضعة، لا تكفي في كثيرٍ من الأحيان لتغطية نفقاتهم الأساسية.
يقول أحد العاملين في إحدى البسطات: “أتقاضى أجرًا يوميًا قدره 70 ألف ليرة سورية، بينما ينفق صاحب البسطة مبالغ كبيرة يوميًا لتأمين البضائع، خصوصًا منتجات الدخان والمشروبات، حيث يشتري يوميًا من منتجات الدخان ما يقارب مليون ليرة سورية. لذلك، فإن أي مصادرة للبضاعة تعني خسارة فادحة لنا جميعًا، ولهذا نواصل العمل رغم المخاطر.”
ورغم شكاوى الباعة من تضييق البلدية، فإن بعض المواطنين يرون أن انتشار البسطات بهذا الشكل يسبب ازدحامًا مروريًا ويشوّه المظهر العام للساحة.
يقول أحد أصحاب المحالّ التجارية في المنطقة لـ”سوريا 24″: “نحن نتفهم حاجة الناس إلى العمل، لكن انتشار البسطات العشوائي يعيق حركة المارة ويزيد من الازدحام، خصوصًا في أوقات الذروة. ربما يجب على البلدية إيجاد حلولٍ بديلة تضمن للباعة أماكن منظمة دون الإضرار بالمدينة.”
ساحة المرجة… مرآة اجتماعية واقتصادية
تحولت ساحة المرجة خلال السنوات الأخيرة إلى نقطة تجمعٍ رئيسية للأهالي القادمين من مختلف المحافظات السورية، خاصةً من دير الزور والرقة والحسكة.
يقول أحد القادمين من ريف دير الزور لـ”سوريا 24″: “نقصد المرجة لقضاء حوائجنا في دمشق، فهنا تتوفر المواصلات والعيادات والمكاتب الحكومية. الساحة أصبحت ملتقىً للناس من كل المناطق، ومكانًا يسهل فيه إنجاز المعاملات بسرعة بفضل الوسطاء والسماسرة.”
ويشير مراسل “سوريا 24” إلى أن نشاط السماسرة في المنطقة مستمرّ منذ سنوات وحتى اليوم، حيث يتولّون تسهيل المعاملات مقابل مبالغ مالية متفاوتة. كما أصبحت الساحة نقطة انطلاقٍ للسيارات الصغيرة التي تتجه نحو مناطق الجزيرة السورية، إذ يعرض بعض السائقين خدمات النقل إلى مدن مثل القامشلي والرقة ودير الزور بشكلٍ مباشرٍ ودائم.
اقتصاد غير رسمي وأسعار شعبية
اقتصاديًا، تُعدّ البسطات في المرجة جزءًا من الاقتصاد غير الرسمي الذي يعتمد عليه كثيرٌ من السوريين في ظل الظروف المعيشية الصعبة وارتفاع الأسعار.
ففي الساحة يمكن شراء معظم الحاجات اليومية بأسعارٍ تقلّ عن تلك الموجودة في المحالّ التجارية، وهو ما يجعلها مقصدًا للطبقة العاملة وأصحاب الدخل المحدود.
يقول أحد الزوار: “تتوفر في الساحة جميع الاحتياجات اليومية بأسعارٍ معقولة؛ ففنجان القهوة يُباع بأربعة آلاف ليرة، وكأس الشاي بثلاثة آلاف، كما يمكن شراء المأكولات والدخان بأسعارٍ منخفضة نسبيًا.”
إلى جانب ذلك، تنشط في الساحة أيضًا خدمات مالية غير رسمية، أبرزها تبديل العملات، حيث يتواجد عددٌ من الصرّافين الذين يقدمون خدماتهم بعيدًا عن الرقابة الرسمية، ما يعكس حجم الاعتماد الشعبي على هذا الفضاء المفتوح لتسيير شؤون الحياة اليومية.
بين النظام والتنظيم
تسعى الجهات البلدية، بحسب مصادر محلية، إلى ضبط الفوضى وتنظيم عمل البسطات ضمن ضوابط محددة، لكنها تواجه مقاومةً شعبية في بعض الأحيان بسبب اعتماد الكثير من الأسر على هذا النشاط كمصدر رزقٍ وحيد.
ويرى مراقبون أن إيجاد حلٍّ متوازن لهذه الظاهرة يتطلّب تنظيمًا إداريًا واقتصاديًا يراعي الجانبين معًا: ضرورة الحفاظ على النظام العام والمظهر الحضري من جهة، وحماية الفئات الضعيفة التي تعتمد على الاقتصاد الشعبي من جهةٍ أخرى.
وهكذا تبقى ساحة المرجة مرآةً مصغّرة لواقع السوريين اليوم، بين سعيٍ يومي لتأمين لقمة العيش في ظل الظروف الاقتصادية القاسية، ومحاولاتٍ مستمرة من السلطات لتنظيم الفضاء العام دون أن تصطدم بحاجات الناس الأساسية.