خلف أسوار من الطين والحجر، وعلى أطراف البادية الشمالية للعاصمة دمشق، يقف متحف دير عطية كواحد من أهم معالم التوثيق الحيّ للتراث السوري.
خلال زيارة خاصة أجراها مراسل “سوريا 24″، بدا واضحًا أن المتحف ليس مجرد قاعات عرض لقطع أثرية، بل هو ذاكرة متكاملة توثق تفاصيل الحياة السورية، من ما قبل التاريخ وحتى بدايات القرن العشرين.
من مبادرة مجتمعية إلى مؤسسة وطنية
في مقدمة جولته، استعرض المراسل خارطة المتحف ومكوناته الممتدة على مساحة تُقدّر بـ 15 ألف متر مربع، الأمر الذي يجعله من أوسع المتاحف في سوريا.
ومن اللافت أن هذا الصرح لم يبدأ كمشروع رسمي، بل كمبادرة مجتمعية انطلقت عام 1982، قبل أن يصدر مرسوم تأسيسه رسميًا عام 1994، وتصبح تبعيته لوزارة الثقافة في عام 1999.
محمد معاد، أمين المتحف، رافق فريق “سوريا 24” في الجولة، وقال إن “المتحف تطور على مراحل، واستجبنا للحاجة المتزايدة لتوثيق التراث المحلي، فأنشأنا مباني متخصصة لكل مكون من مكونات الحياة السورية التقليدية”.
تجربة حيّة… لا مجرد عرض
بدأت الجولة من مبنى التقاليد الشعبية، حيث تُعرض أدوات البناء والنجارة والزراعة، إلى جانب قطع تراثية كالملابس، والسجاد، والأواني الزجاجية، التي تحمل بصمة البيئة السورية بكل تنوعها.
ولفت مراسلنا إلى أن العرض لا يتم بطريقة جامدة، بل يتّبع أسلوبًا سرديًا تفاعليًا يجعل الزائر يشعر وكأنه يسير في أحياء سوريا القديمة.
الفخار: قصص الطين المحفور بتاريخ الألفيات
في مبنى الفخار، توقف المراسل أمام قطع نادرة تعود للعصر البرونزي الوسيط، وأخرى من تل حميران، وأشار إلى أن طريقة العرض تعتمد تسلسلًا زمنيًا من الأقدم إلى الأحدث، ما يساعد الزائر على فهم تطور أدوات الإنسان السوري.
وفي هذا السياق، أوضح معاد أن “غالبية القطع الفخارية الموجودة لدينا تم العثور عليها في ريف دمشق، وتم توجيهها لمتحف دير عطية لعرضها بطريقة علمية تحترم قيمتها الزمنية”.
مغارة ما قبل التاريخ… بوابة الإنسان الأول
من بين أكثر الأقسام غرابة وجاذبية، كانت المغارة، وهو جناح يحاكي حياة الإنسان ما قبل التاريخ، ويضم أدوات صوانية من معلولا ويبرود، تعود للعصر الحجري.
المراسل وصف هذه القاعة بأنها “تجربة شبه سينمائية”، حيث الإضاءة والمجسمات تقدم سياقًا بصريًا يساعد على فهم واقع الإنسان الأول.
القلعة… معمار حجري يحكي بلسان التراث
مبنى القلعة، وهو أكبر مباني المتحف، شُيّد بالحجر الغشيم دون تهذيب، مع سقوف من خشب مأخوذ من منازل دير عطية القديمة. تضم القلعة عشرة أقسام، من أبرزها:
قسم الأسلحة التقليدية
قسم السلاح الأبيض
قسم المسكوكات والطوابع
قسم الحلي التقليدية
قسم الوثائق
وأكد معاد أن القلعة تمثل “الهوية الصلبة للمتحف”، قائلًا: “هذا المبنى يوثق الذاكرة الحربية، الاجتماعية، والاقتصادية للمنطقة، حيث تُعرض الطوابع والمسكوكات والحلي التي تعود للقرنين الخامس والسادس الميلادي”.
رسائل المغتربين.. الجانب الإنساني للمتحف
في قسم الوثائق، اطّلع مراسل “سوريا 24” على مجموعة ورقيات نادرة، وهي مراسلات بين أهالي دير عطية وذويهم المهاجرين في أمريكا الجنوبية، تعود إلى عام 1910.
وقال معاد: “هذا القسم من أكثر ما نفتخر به، لأنه يحفظ البعد الإنساني للمجتمع المحلي، ويكشف عن عمق الروابط العائلية والثقافية في مواجهة الغربة”.
المتحف اليوم… أبواب مفتوحة وخطط للغد
حاليًا، يفتح المتحف أبوابه للزوار المحليين والأجانب طيلة أيام الأسبوع، عدا يوم الثلاثاء. ويستقبل وفودًا من العراق ولبنان والكويت، إلى جانب الزوار من مختلف المدن السورية.
نبّه معاد إلى وجود أربع قاعات مغلقة يمكن تأهيلها مستقبلًا، معلنًا عن خطة لتوسيع الشروحات وتحديث دليل المتحف بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف.
واختتم تصريحه بالتأكيد على أن “لدينا قطعًا أثرية فريدة لا يوجد لها نظير في العالم، وهذا يمنح متحف دير عطية مكانة استثنائية، ليس فقط كسجل للتاريخ، بل كمساحة حية للحوار الثقافي”