مع اندلاع الثورة في ريف دمشق ومناطق العاصمة عام 2011، تحوّلت أحياءً مثل المزه وكفر سوسة إلى ساحات احتكاك مستمر مع سلطات النظام. يقول محمد مازن الدمشقي، من أهالي كفر سوسة، إن الاحتجاجات هناك واجهت ردًّا أمنياً عنيفاً شمل اشتباكات مسلّحة وهجمات أدّت إلى سقوط شهداء، منهم شقيقه البالغ 18 عاماً، قبل أن تتحوّل الأحداث لاحقاً إلى ذريعة لتطبيق مرسوم صدر عام 2012 يعرف بالمرسوم 66 الذي سمح لـ”التنظيم العمراني” في دمشق بإعادة تخطيط مناطق صنفتها السلطة “عشوائية” وتحويلها إلى مشاريع عقارية كبرى مثل ماروتا سيتي وباسيليا سيتي.
يشير الدمشقي إلى أن إجرام النظام امتد إلى مناطق أخرى أيضا، فبعد سنوات من صدوره شمل القدم والعسالي والدحاديل ونهر عيشة وجورة الشيباني رغم أنهم كانوا غير مشمولين بالمرسوم حين صدوره
أهالي الحي الذين رووا شهاداتهم لسوريا 24 يصفون التجربة بأنها ليست مجرد قرار تخطيط حضري، بل عملية انتقامية وسياسة تغيير ديموغرافي استهدفت مناطق شهدت مقاومة ونشاطاً ثورياً، حيث يُتهم المرسوم بأنه أُستخدم لنهب عقارات السكان ونقلها إلى جهات نافذة ومستثمرين مقربين من السلطة، بينما تُرك أصحاب الملكيات إما مِهَجّرين أو مستأجرين على مدى سنوات دون تعويض عادل أو سكن بديل مناسب. هذه الانتقادات وثّقتها تقارير حقوقية ومتابعات محلية ودولية التي ربطت تطبيق المرسوم بعمليات مصادرة وحرمان من العودة.
في شهادته لسوريا 24، يذكر الدمشقي أنّ النظام “أخرج الناس من بيوتهم على عجل ودمر وسحق البيوت” تحت حجج التطوير وإزالة العشوائيات، وأن كثيرين يسكنون اليوم في إيجارات بعيدة عن مسقط رأسهم، وأن تعويضات المحافظة عن الإيجارات ضئيلة ولا تغطي التكاليف الفعلية. ويؤكد أن كثيرين يمتلكون أوراق ملكية (الطابو الأخضر) وأن الادّعاءات بأن الأراضي ملك للدولة غير دقيقة في كثير من الحالات.
تتزامن هذه الشهادات مع سجال سياسي وقانوني حديث: في 20–21 أكتوبر 2025 أعلن محافظ دمشق تعليق تنفيذ بعض بنود المرسوم في مناطق مثل «باسيليا سيتي» مؤقتاً لبحث آليات حماية حقوق المالكين وإعادة تقييم التطبيق، في خطوة اعتبرها متضررون بداية اعتراف بمظلومية طال انتظارها، بينما وصفها آخرون بأنها غير كافية ما لم تُترجم إلى إلغاء فعلي أو تعويض عادل وإمكانية العودة.
المنظمات الحقوقية وثّقت نماذج للحرمان من العودة والتعويض غير الكافي، ورصدت تورط شركات ومؤسسات حكومية في نقل قطع أراضٍ إلى مستثمرين، ما عزز اتهامات أن المرسوم مثّل آلية لتقوية نفوذ عناصر متنفذة وإحداث تغيير سكاني في مناطق حسّاسة من دمشق. كما أشارت تقارير متخصصة إلى أن مشاريع مثل ماروتا وباسيليا صُممت على أراضٍ كانت في الأساس ملكية خاصة لمواطنين تم تهجيرهم خلال سنوات الثورة.
أهالي كفر سوسة والمزه يطالبون اليوم بحق العودة إلى أراضيهم، وإنصافاً حقيقياً يشمل إلغاء الإجراءات الاستثنائية التي استُخدمت بعد 2011 ومنح تعويضات عادلة أو إرجاع الملكيات لأصحابها. هؤلاء، كما يقول الدمشقي، هم «شهداء الثورة» والمسجونون والمهجّرون، وليسوا مستفيدين من أي استبدال ديموغرافي، ويرفضون أن يتحول حقّهم في أرض الآباء إلى سلعة في سوق استثمارية. ويضيف أن الإعلان الدستوري الجديد ينصّ على قدسية الملكية الخاصة وإلغاء المراسيم والقوانين الاستثنائية الصادرة بعد 2011، مما يجعل مطالبهم قابلة للمطالبة والمراجعة في ضوء النصوص الدستورية الجديدة.
بين العدالة العمرانية والحقوق المغيبة
قضية مرسوم 66 في المزه وكفر سوسة ليست فقط نزاعاً على أراضٍ ومشروعات عمرانية، بل ملفٌ مركب يجمع بين آثار الحرب، ومطالب حقوقية متأخرة، ورغبات استثمارية وسياسات تغيير سكاني. الشهادات المحلية — كحالة محمد مازن الدمشقي — تضع وجهاً إنسانياً لهذا النزاع: أسر تريد العودة إلى أرض أجدادها، تعويضات تغطي فقدان المسكن والكرامة، ومحاكمة سياسات مصادرةٍ نفّذت تحت غطاء التنمية. أي حلّ حقيقي يجب أن يضمن إنصاف المتضررين واستعادة حقوق الملكية، أو على الأقل تعويضاً عادلاً وسكنًا بديلًا في أماكن مناسبة، مع آليات شفافة للمراجعة القضائية والإدارية.
وقبل أيام التقى محافظ دمشق، ماهر مروان إدلبـي، مجموعةً من أهالي أحياء المزة وكفر سوسة القدم والعسالي ونهر عيشة المتضررين من المرسوم 66، في لقاءٍ حواري وديّ وصريح جرى خلاله تبادل الآراء وطرح الهواجس بشفافية.
وأكد المحافظ خلال اللقاء أنّ المحافظة وأهلها في خندق واحد يعملون معًا من أجل مستقبل العاصمة، موضحًا أن المرسوم صدر في حقبة النظام البائد من وزارة الإسكان وصادقت عليه وزارة الإدارة المحلية قبل تحويله إلى مجلس المحافظة، وأن تعديله أو إلغاءه يتطلّب مرسومًا رئاسيًا وتشريعات جديدة تناقش تحت قبة مجلس الشعب.
وشدد إدلبـي على أنّ تنفيذ المرسوم موقوفٌ مؤقتًا في مناطق باسيليا وغيرها، مشيرًا إلى أن أيّ خطوات لاحقة لن تُستأنف إلا بعد ردّ الحقوق المشروعة للمتضررين، ومراعاة العدالة التي تُعدّ أساس الدولة السورية الجديدة. كما أعلن عن تشكيل لجان فنية متخصصة تضم ممثلين عن الأهالي والنقابات المعنية، لدراسة الثغرات والأضرار الناجمة عن تطبيق المرسوم في منطقة ماروتا، وتقديم التوصيات اللازمة لضمان الإنصاف والمساءلة. واختُتم اللقاء بروحٍ من المحبة والمسؤولية المشتركة، مؤكّدًا أن العدالة ستبقى عنوان المرحلة القادمة في دمشق.