في زاوية هادئة من مدينة السقيلبية، الواقعة في الريف الغربي لمحافظة حماة، تفتح سارة الرزوق (80 عاماً) باب غرفة صغيرة داخل منزلها، لا تشبه غيرها من الغرف.
فبين جدرانها، لا تجد سوى ذكريات المدينة، محفوظة بدقة على هيئة لوحات ومجسمات تراثية صنعتها يداها على مدار عقود.
هذه الغرفة، التي تحولتها سارة إلى متحف شخصي، أصبحت وعاءً حياً لتراث السقيلبية، تحفظه من الاندثار وتنقله إلى الأجيال الجديدة.
بدأت سارة مشروعها التراثي قبل عقود، مستخدمة أدوات بسيطة ومعرفة ورثتها من محيطها. لم تنتظر دعماً رسمياً أو مساعدة مؤسسية.
عملت بمفردها، ليلاً بعد أن يخلد أطفالها للنوم، لتبدأ رحلة بناء مجسمات تعكس الحياة اليومية في السقيلبية قبل عقود: بيوت الطين، أدوات الزراعة اليدوية، ملابس النساء المطرّزة يدوياً، طقوس الأعراس، وأجواء المواسم الزراعية.
كل قطعة في الغرفة تحمل قصة: مجسم لامرأة تخبز الخبز على التنور، آخر لرجل يحرث الأرض بمحراث خشبي، وثالث يصوّر سوقاً شعبياً بألوانه وأصواته.
ولم تكتفِ سارة بالبناء، بل اهتمّت بالتفاصيل الدقيقة: الخيوط المستخدمة في التطريز، ألوان الأقمشة، وحتى طريقة ترتيب الأواني في المطبخ القديم. كل ذلك يعكس وعياً دقيقاً بالهوية المحلية، وحرصاً على نقلها بأمانة.
تقول سارة، التي تصف نفسها بـ”فنانة السقيلبية” في حديث لمنصة سوريا 24
“أحببت أن أعيد تراث السقيلبية حتى يرى الجيل الجديد كيف كان أجدادنا يعيشون”.
وتابعت: “ما يهمني هو أن يعرف أولادنا أن أجدادهم كانوا يعرفون كل شيء في هذه الحياة، وكانوا على درجة عالية من الذكاء والابتكار”.
رغم تقدمها في السن، لم تتوقف سارة عن العمل. كانت تبدأ في الساعة الثامنة مساءً، بعد أن تُنهي تدريس أطفالها القراءة والكتابة، وتواصل حتى ساعات الفجر الأولى، خاصة في مراحل إنجاز الملابس التراثية التي تتطلب دقة في الخياطة والتطريز.
وتشير إلى أن ابنها وحفيدتها يساعدانها أحياناً، لكن جوهر العمل ظلّ فردياً، نابعاً من إصرارها الشخصي.
اليوم، أصبحت غرفتها الصغيرة مقصداً محلياً. يزورها أهالي السقيلبية، خصوصاً من الشباب، للتعرّف على تفاصيل لم يروها في كتب الدراسة.
ويشير سكان المدينة، حسب مراسل منصة سوريا 24 في حماة، إلى أن سارة هي أول امرأة في المنطقة تقوم بهذا النوع من الحفاظ على التراث عبر الفن التشكيلي والمجسمات.
لا تحمل الغرفة لافتة ولا تموّل من جهة رسمية، لكنها تؤدي وظيفة متحف حقيقي: حفظ الذاكرة، وربط الحاضر بالماضي، وتعليم الأجيال القادمة أن التراث ليس مجرد ذكريات، بل معرفة عملية وقيم اجتماعية تستحق البقاء.
في زمن تتسارع فيه التغييرات ويتلاشى فيه الكثير من العادات، تبقى سارة الرزوق شاهدة على عصر، وحارسة لذاكرة لم تُكتب، لكنها صُنعت بيدين واعيتين، وقلبٍ لم ينسَ أصوله.