عادت محافظة السويداء لتتصدر المشهد السوري من جديد، بعد حادثة إطلاق نار على حافلة مدنية على طريق دمشق–السويداء، أسفرت عن مقتل شخصين وإصابة آخرين، في حادثة وُصفت بأنها الأخطر منذ أشهر الهدوء النسبي الذي أعقب اشتباكات تموز/يوليو الماضي.
أثارت الحادثة موجة من القلق الشعبي والسياسي، وأعادت إلى الأذهان مشاهد الفوضى الأمنية التي عاشتها المنطقة في فترات سابقة، وسط تساؤلات عن الجهات المستفيدة من إشعال التوتر في الجنوب السوري مجددًا.
روايات متضاربة وتحقيقات جارية
بعض الروايات اعتبرت أن المسلحين الذين نفذوا الهجوم كانوا ملثمين ولا يرتدون زياً أمنياً، وقد اعترضوا الحافلة وسألوا الركاب عن طائفتهم قبل أن يفتحوا النار عليهم بشكل عشوائي.
وتشير الروايات إلى أن منطقة الحادثة تخضع لسيطرة قوى الأمن الداخلي، ما أثار شكوكًا حول كيفية تمكُّن المسلحين من تنفيذ العملية بهذه السهولة، ومن ثم الفرار من المكان.
في المقابل، قال مدير مديرية الأمن الداخلي في السويداء، سليمان عبد الباقي، في تصريح لقناة “الإخبارية السورية”، إن “مسلحين اثنين يستقلان دراجة نارية نفذا الهجوم على الطريق”، مؤكدًا أن دوريات الأمن توجهت إلى موقع الحادثة لملاحقة الجناة، وأن العمل جارٍ على تكثيف الحواجز والدوريات لضمان استقرار الطريق.
وأضاف عبد الباقي أن الطريق بين دمشق والسويداء “تم تأمينه منذ شهرين، وأن الجهود مستمرة للوصول إلى حالة استقرار تام”.
دعوات لضبط السلاح المنفلت
في ردود الفعل المدنية، اعتبر الحقوقي ميشال شماس أن ما جرى “جريمة لا تُغتفر ومدانة بشدة”، مشيرًا في منشور على حسابه في فيسبوك إلى أن فوضى انتشار السلاح باتت “تهديدًا لأمن المواطنين وللدولة نفسها”، وأن المسؤولية اليوم مضاعفة على السلطة لضبط السلاح وسحبه من أيدي المدنيين.
وحذّر شماس من أن استمرار هذا الواقع “قد يتحول إلى خطر وجودي على الدولة والمجتمع معًا”، داعيًا إلى إعادة هيبة المؤسسات وضبط الأمن في الجنوب السوري.
الطريق بين الرمزية السياسية والأمنية
من جهته، يرى الباحث والأكاديمي الدكتور صبح البداح، في حديث لمنصة سوريا 24، أن حادثة استهداف الحافلة على طريق دمشق–السويداء، بعد فترة هدوء، ليست خرقًا أمنيًا عابرًا، بل محاولة لإعادة التوتر وإحياء خطاب العزلة في لحظة كان الطريق فيها يتحول إلى رمز لعودة السويداء إلى حضن الدولة.
ولفت إلى أن المستفيد من هذا التصعيد هو التيار الساعي إلى جرّ المحافظة نحو خيارات انفصالية وتكريس وهم الحصار.
وأكد أن أمن الطريق اليوم ليس شأنًا خدميًا فحسب، بل مؤشر سياسي على اتجاهات الملف: إما نحو الاستقرار وعودة الأهالي والمصالحة، أو نحو الفوضى التي تخدم دعاة الانقسام والارتهان للخارج.
وبيّن أن المطلوب هو تثبيت الأمن وحماية المدنيين واستكمال خطوات التهدئة، بالتوازي مع دور مسؤول من الدول الضامنة لضمان عدم انزلاق الجنوب إلى مشاريع تقسيم أو صراع بالوكالة، وفق تعبيره.
رسائل مزدوجة واتهامات متسرعة
أما المحلل السياسي حافظ قرقوط، فاعتبر أن ما جرى “عمل إرهابي بكل المقاييس”، هدفه إفشال أي جهود للمصالحة أو إعادة الثقة بين الأهالي والسلطات، مضيفًا أن الحادثة “تحمل رسائل مزدوجة، موجهة من جهة إلى سكان السويداء، ومن جهة أخرى إلى المجتمع الدولي”.
وأوضح قرقوط في حديث لمنصة سوريا 24 أن الرسالة الأولى تقول إن سوريا لا تزال غير آمنة، وإن الحكومة “غير قادرة على ضبط التنقل بين المحافظات أو حماية الأقليات”، مشيرًا إلى حساسية هذه القضية “في ظل متابعة الكونغرس الأمريكي لتقارير رفع العقوبات عن سوريا”.
وأضاف أن من بين الضحايا طالبة جامعية كانت تستعد لحفل تخرجها، ما زاد من وقع الصدمة في الشارع المحلي.
وانتقد قرقوط ردود فعل بعض النشطاء المقربين من الحكومة السورية، الذين “وجهوا اتهامات لأهالي السويداء بأنهم أطلقوا النار على أنفسهم”، رغم أن الحادثة وقعت على بعد نحو 50 كيلومترًا من حدود المحافظة.
وقال إن “مثل هذه التصريحات تزيد الشرخ الاجتماعي، وتقلل من قيمة حياة المدنيين، وكأن الأمر مجرد سباق في تبادل الاتهامات”، مضيفًا أن المطلوب هو التعامل مع الحادثة كجريمة بحق مواطنين أبرياء، لا كخلاف مناطقي أو طائفي.
ثغرات أمنية ومخاوف من انزلاق جديد
سلّطت الحادثة الأخيرة الضوء على الثغرات الأمنية على طريق دمشق–السويداء، الذي يُفترض أنه مؤمَّن من قبل قوى الأمن العام منذ أشهر، لكنها كشفت في الوقت ذاته عن هشاشة الوضع الأمني في الجنوب، واحتمال تجدد دوامة التوتر والاغتيالات والكمائن.
ويخشى سكان المنطقة من أن يؤدي استمرار غياب الثقة بين الأهالي والأجهزة الأمنية إلى تنامي النزعات الانفصالية أو عودة الحراك المسلح في بعض المناطق الريفية، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور والفراغ الإداري الذي تعيشه المحافظة.
بين الهدوء المؤقت واحتمال التصعيد
ووسط كل ذلك، فإن ملف السويداء دخل مرحلة حساسة تتطلب معالجة سياسية وأمنية متوازنة، تبدأ بتثبيت الأمن الفعلي على الطرق الحيوية، مرورًا بضبط السلاح، وانتهاءً بإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع المحلي.
ففي وقتٍ تحتاج فيه دمشق إلى استقرار الجنوب لتعزيز الوضع السياسي والاقتصادي، فإن أي توتر في السويداء يُعد زعزعة لمسار التهدئة وتهديدًا لاستقرار المنطقة برمتها.








