في تحوّل استراتيجي يعكس تبلور ملامح “سوريا الجديدة”، بدأت تركيا استقبال دفعات من عناصر الجيش والشرطة السوريين للتدريب داخل أراضيها، ضمن اتفاق تعاون عسكري واسع النطاق يهدف إلى إعادة تشكيل البنية الدفاعية للدولة السورية من الألف إلى الياء.
هذه الخطوة، التي تتجاوز كونها مجرد تبادل تدريبي تقني، تمثل حجر الأساس في مشروع وطني طموح لبناء جيش سوري حقيقي — جيش لا يخدم نظامًا أو فردًا، بل يحمي الشعب ويصون الحدود ويضمن سيادة الدولة.
خارطة طريق عسكرية جديدة
وأعلنت وزارة الدفاع التركية، في بيان رسمي صدر يوم الخميس الماضي، أن 49 طالبَ ضابطٍ سوريًّا قد التحقوا بالكليات العسكرية التركية، موزعين على الكليات الجوية والبرية والبحرية.
ويتلقى نحو 300 عنصر من الجيش والشرطة السورية حاليًا تدريبات مكثفة في قاعدتين عسكريتين تقعان في وسط وشرق تركيا.
وتخطط أنقرة لتدريب 5 آلاف عنصر سوري في المرحلة القصيرة، على أن يرتفع هذا العدد إلى 20 ألفًا في المدى المتوسط والطويل.
ويأتي هذا البرنامج في سياق اتفاق تعاون عسكري وُقّع بين وزارتي الدفاع السورية والتركية في أغسطس الماضي، ويشمل برامج تدريبية متخصصة، واستشارات عسكرية مشتركة، ودعمًا لوجستيًا وتقنيًا.
من غارات إسرائيلية إلى طلب سوري رسمي
لم تأتِ هذه الخطوة من فراغ. ففي يوليو الماضي، وبعد سلسلة غارات إسرائيلية استهدفت مواقع حساسة في دمشق والسويداء، وجّهت الحكومة السورية طلبًا رسميًا إلى تركيا للحصول على دعم عسكري عاجل.
تلك الغارات كشفت الهشاشة البنيوية للجيش السوري السابق، الذي لم يعد قادرًا حتى على الدفاع عن المجال الجوي أو تأمين المنشآت الحيوية.
ومنذ تشكيل “وزارة الدفاع في سوريا الجديدة”، بدأت القيادة الانتقالية بالبحث عن شركاء استراتيجيين لإعادة بناء المؤسسة العسكرية من الصفر.
وكانت تركيا، التي استضافت أكثر من خمسة ملايين لاجئ سوري، ووقفت إلى جانب المعارضة السياسية والعسكرية طوال سنوات الأزمة، الشريك الطبيعي لهذا المشروع.
الجيش السوري السابق لم يعد موجودًا
ويؤكد المحلل العسكري، العميد عبد الهادي ساري، في حديث لمنصة “سوريا 24”، أن “الجميع يعلم أن الجيش السوري شهد حالة من التفكك والانهيار بعد سقوط النظام السابق وهروبه، فلم يعد هناك جيش منظم يُعوّل عليه، ولا مؤسسة دفاعية قادرة على حماية الدولة أو الحفاظ على سيادتها”.
ويضيف ساري أن “اللحظات الأولى لتأسيس وزارة الدفاع في سوريا الجديدة شهدت تفكيرًا جديًا في كيفية بناء جيش سوري جديد، جيش وطني يحمي الشعب ويصون حدود الوطن”.
ويشير إلى أن “تركيا لعبت دورًا محوريًا منذ بدايات الأزمة، ليس فقط باستضافتها للاجئين، بل بدعمها الدبلوماسي والعسكري الذي منع عودة النظام السابق إلى المناطق الشمالية”.
ويوضح أن “التعاون العسكري لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج سلسلة زيارات متبادلة بين مسؤولين عسكريين من الجانبين، تبلورت خلالها فكرة التعاون الثنائي”.
وذكر أن “الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه استجاب بسرعة للطلب السوري الرسمي”، ما يعكس “أهمية الملف السوري في الاستراتيجية التركية”.
وشدّد ساري على أن “الدور التركي لا يقتصر على التدريب فقط، بل يمتد إلى نقل خبرة عسكرية غربية متقدمة، نظرًا إلى أن تركيا عضو في حلف الناتو ولديها بنية تدريبية ولوجستية متطورة”.
ورأى أن “التعاون لم يقتصر على تركيا وحدها”، إذ “جرى أيضًا توجّه متوازٍ نحو روسيا الاتحادية، حيث جرت زيارات متبادلة، وتم التباحث حول إمكانية الاستفادة من الخبرات الروسية في توريد الأسلحة والذخائر”.
ويختم تحليله بالقول: “الهدف الأساسي اليوم هو بناء جيش وطني حقيقي، لا يخدم فردًا أو نظامًا، بل يحمي الشعب السوري ويصون حدود الجمهورية العربية السورية، ويمنع أي اختراقات أمنية أو تهديدات خارجية. وهذا طموح مشروع يشترك فيه كل السوريين”.
أمن تركيا من أمن سوريا
من جانبه، يقدم المحلل السياسي مهند حافظ أوغلو رؤية استراتيجية أوسع، تربط بين الأمن السوري والأمن التركي بشكل عضوي.
ويقول في حديث لمنصة “سوريا 24”: “تعلم تركيا الحاجة الماسّة والضرورية إلى إنشاء جيش سوري قوي، لأن سوريا هي قلب الشرق الأوسط. وبناءً عليه، لا بد أن يكون جيشها قويًا، واستخباراتها قوية، ومؤسساتها الأمنية متماسكة”.
ويؤكد أوغلو أن “بناء الدولة السورية اليوم يتم وفق المنطق، وفق العقل، وفق القوة، ووفق العلم الصحيح، وبما يناسب الواقع الميداني”. ويشير إلى أن “سوريا بقيت أكثر من ستة عقود تحت بناء فاشل وغير صحيح، أما اليوم، فالدولة تُبنى من جديد على أسس سليمة”.
ويصف الخطوة التركية الحالية بأنها “أولى الخطوات العملية”، مضيفًا: “هذه ليست نهاية المطاف، بل بداية مرحلة أولى ستتبعها خطوات متعددة وكثيرة”.
ويشدّد على أن “الأمر لا يقتصر على 49 طالبًا في الكليات الجوية أو البرية أو البحرية، بل سيتوسع ليشمل آلاف العناصر، لأن البناء الأمني والعسكري ضرورة ملحّة، سواء في المرحلة الحالية أو في المستقبل”.
ويذهب أوغلو إلى أبعد من ذلك، حين يربط بين التهديدات الإقليمية والتعاون السوري–التركي: “هناك من يتربص بسوريا، ومن يتربص بسوريا يتربص بتركيا أيضًا”. ويوضح أن “التشديد التركي على أهمية أمن سوريا ليس من باب التدخل، بل من باب حماية الذات، لأن هناك وحدة مصير بين الدولتين”.
جيش كمؤسسة دولة لا كأداة سلطة
التدريبات الحالية في تركيا ليست مجرد دورات عسكرية روتينية، بل لَبِنة أولى في مشروع دولة جديد. فسوريا، التي عاشت أكثر من ستة عقود تحت أنظمة استبدادية حوّلت الجيش إلى أداة قمع داخلي، تسعى اليوم إلى تحويله إلى مؤسسة وطنية تحمي الحدود، تصدّ العدوان الخارجي، وتدعم الاستقرار الداخلي.
وفي ظل التهديدات الإسرائيلية، والتدخلات الإقليمية، والفراغ الأمني الذي خلّفه انهيار النظام السابق، يبدو أن بناء جيش وطني قوي لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية.
كما أن الخطوات التركية–السورية الحالية قد تكون بداية الطريق نحو دولة سورية مستقرة، ذات سيادة، وقادرة على حماية شعبها.








