إيجارات المنازل تفرغ جيوب السوريين
تشهد سوريا، بعد سقوط نظام الأسد، واحدة من أعنف الأزمات السكنية في تاريخها المعاصر، بعد أن التهمت الإيجارات ما تبقى من قدرة المواطنين الشرائية، وسط انعدام شبه تام لأي ضوابط قانونية أو تشريعات تنظم السوق العقارية.
 فمن دمشق التي تتصدر قائمة المدن الأغلى، إلى الرقة ودير الزور وريف دمشق، مرورًا بحمص وحماة وحلب وإدلب وطرطوس، يروي مراسلو «سوريا 24» ومجموعة من الشهود والخبراء مشهدًا معقدًا تتداخل فيه الحاجة مع الجشع، والمأساة مع اللامبالاة الرسمية.
مدى الدمار وأثره على السوق العقارية
لقد ألقى الصراع السوري بثقله على البنى التحتية السكنية، مما زاد من حدة الأزمة في سوق الإيجارات.
 قدّر البنك الدولي، في تقرير صدر عنه في تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أن كلفة إعادة الإعمار في سوريا بنحو 216 مليار دولار بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب التي دمّرت البنية التحتية واستنزفت الاقتصاد.
 وأوضح التقرير أن الأضرار المادية المباشرة للبنية التحتية والمباني السكنية وغير السكنية بلغت 108 مليارات دولار، منها 52 مليارًا في البنية التحتية وحدها، فيما تعد حلب وريف دمشق وحمص الأكثر تضررًا.
 وأشار البنك إلى أن هذه الكلفة تعادل عشرة أضعاف الناتج المحلي لسوريا لعام 2024، ما يعكس حجم التحدي أمام السلطة الانتقالية بعد سقوط النظام السابق.
 وأكد المدير الإقليمي للبنك، جان كريستوف كاريه، أن “التحديات هائلة، لكن البنك الدولي مستعد للعمل مع الشعب السوري والمجتمع الدولي لدعم جهود التعافي والتنمية طويلة الأجل”.
 وتتوزع الكلفة بين 75 مليار دولار للمباني السكنية، و59 مليارًا للمنشآت غير السكنية، و82 مليارًا للبنية التحتية.

العاصمة التي تجاوزت حدود الغلاء
في العاصمة السورية دمشق، تواصل أسعار الإيجارات تسجيل مستويات غير مسبوقة، جعلت منها المدينة الأعلى تكلفة على مستوى البلاد.
 وبحسب ما رصده مراسل «سوريا 24»، تتفاوت الإيجارات تفاوتًا كبيرًا بين أحياء العاصمة، كما يظهر في الإنفوجراف، مع العلم أن سعر صرف الدولار الأميركي الواحد يُعادل 11,400 ليرة سورية:
 ففي الأحياء التي يُطلق عليها اسم “الراقية” مثل المالكي وكفرسوسة، تتراوح الإيجارات بين 1300 و4000 دولار شهريًا للشقق الكبيرة التي تتمتع بإكساء فاخر، بينما تسجل في المزة فيلات شرقية وغربية ما بين 800 و1500 دولار شهريًا.
 وفي مناطق مثل مشروع دمر، أبو رمانة، الشعلان، شارع بغداد، المزرعة، والمهاجرين، تتراوح الإيجارات بين 600 و900 دولار.
 وفي القصاع، باب توما، القصور، والعدوي، بين 450 و760 دولارًا.
 وتنخفض نسبيًا في الميدان، الزاهرة، ركن الدين، مساكن برزة، ومزة جبل، حيث تتراوح بين 350 و600 دولار.
 وفي أطراف العاصمة مثل دويلعة، الطبالة، القزاز، ببيلا، نهر عيشة، مزة 86، ومرتفعات ركن الدين، تتراوح الإيجارات بين 250 و350 دولارًا، فيما تُعرض المنازل الصغيرة أو القديمة أو التي تحتاج إلى صيانة بنحو 250 دولارًا فقط.
 وفي ضواحي العاصمة مثل قدسيا، سيدي مقداد، نهر عيشة، صحنايا، وجديدة عرطوز، تتراوح الإيجارات بين 150 و200 دولار، بينما تبدأ في معضمية الشام، عرطوز، قطنا، الهامة، عربين، وسقبا من 40 دولارًا للمنازل القديمة وتبلغ 150 دولارًا للمنازل النظيفة أو المجددة.
يقول أبو عمر، العائد من تركيا إلى سوريا، وهو يتنهد بحسرة، إنه “ظن في البداية أن العودة إلى بلدي ستمنحني بعض الاستقرار، وربما بداية جديدة، لكن الواقع كان أكثر قسوة مما توقعت”، وأنه لم يجد منزلًا في دمشق يناسب دخله المحدود، لذلك بدأ يبحث في الضواحي.
 ويتابع: “تنقلت بين المكاتب العقارية لأيام، وكلما ظننت أنني اقتربت من خيار مناسب، أفاجأ بشروط مرهقة أو أسعار مبالغ بها”، واضطر في النهاية لاستئجار منزل في الضواحي بمبلغ 150 دولارًا في الشهر.
 ويختم حديثه، بالقول: “صحيح أن المساحة صغيرة والإكساء متواضع، لكن على الأقل وجدت سقفًا يأويني”.
في المقابل، يقول محمود عبد المعطي، العائد من أوروبا بعد سنوات من التهجير القسري، إنه لم يكن يبحث عن منزل عادي، بل عن مساحة تضمن له الخصوصية والراحة التي اعتادها.
 “كنت أعلم أن الأسعار مرتفعة، لكن مدخولي يسمح لي بمرونة أكبر في الخيارات”، يضيف عبد المعطي، ثم يتابع: “لذلك فضلت استئجار منزل في مجمع سكني بمنطقة الصبورة، في محيط دمشق، حيث الخصوصية والأمان، ولو كان السعر مرتفعًا”.
 ويشير إلى أن الإيجار الشهري تجاوز 800 دولار أمريكي، مع اشتراط دفع إيجار عام كامل مقدمًا، بالإضافة إلى تأمين وعمولة شهر إضافي للوسيط العقاري.
 “اضطررت في النهاية إلى دفع نحو 9500 دولار، فقط لأضمن السكن في هذه المنطقة”، يقول بابتسامة، مضيفًا: “رغم أن المبلغ كبير، إلا أنني أحمد الله على أنني تمكنت من الحصول على بيت لائق، في وقت أصبحت فيه المنازل الجيدة عملة نادرة، والطلب يفوق العرض بكثير”.
وبحسب ما رصده موقع «سوريا 24»، فإن قدوم نحو 25 ألف موظف حكومي على الأقل من الشمال إلى دمشق واستقرار قسم منهم في العاصمة، إضافة إلى عودة المغتربين والمهجرين من قرى وبلدات ريف دمشق في الغوطة وأحياء دمشق الجنوبية، زاد من الضغط على سوق العقارات في المدينة.
 ويعتقد عدد من العاملين في هذا القطاع أن نزوح عشرات آلاف العائلات من المدن والأحياء المدمرة، سواء في محيط العاصمة أو المحافظات الأخرى، أدى إلى نقص حاد في المعروض السكني وارتفاع الأسعار بنسب غير مسبوقة.
 
ريف دمشق: لم يبق ملاذًا للفقراء
وبالانتقال إلى ريف دمشق، وبالتحديد إلى مدينة التل، التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة من أكثر المناطق ازدحامًا، تشهد سوق العقارات ارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار.
 فقد قفزت الإيجارات إلى مستويات خيالية؛ إذ يتراوح إيجار الشقة الفارغة بين مليون ونصف وثلاثة ملايين ليرة سورية شهريًا، بينما تبدأ الشقق المفروشة من ثلاثة ملايين ليرة وما فوق، مع عمولات إضافية تصل إلى نصف قيمة الإيجار الشهري، ورسوم عقود بلدية تبلغ نحو 250 ألف ليرة.
 ويواجه الباحثون عن منزل صعوبات كبيرة في العثور على شقة شاغرة، إذ قد يستغرق الأمر أكثر من شهر، مما يزيد من معاناة العائلات.
يقول أحد المستأجرين لـ«سوريا 24»: “ندفع مبالغ طائلة لقاء بيوت غير صالحة للسكن، لكن لا خيار أمامنا”، ويشتكي من ضعف الرقابة وجشع أصحاب العقارات.
 ولا يختلف الحال كثيرًا في مناطق ريف دمشق الأخرى مثل دوما، جديدة عرطوز، وكفرسوسة، حيث تبدأ الإيجارات من مليون ونصف ليرة للشقة العادية، مع تفاوت واضح حسب الموقع والخدمات.
 وبحسب عدد من أصحاب المكاتب العقارية، فإن أسباب الارتفاع لا تقتصر على التضخم وضعف القدرة الشرائية، بل تشمل أيضًا عودة المهجرين إلى ريف دمشق، ولا سيما إلى التل التي ضاقت بسكانها، إضافة إلى محدودية الرقعة العمرانية، وتقليص المشاريع التنظيمية، بينما بقيت مناطق مثل القواصر، ووادي موسى، ومنطقة الأوتوستراد خارج نطاق التنظيم.
حمص وحماة: ارتفاع الإيجارات يلتهم الدخل
وبالانتقال إلى وسط سوريا، تأثرت أسعار الإيجارات في مدينة حمص، وارتفعت بشكل كبير، إذ يشير محمود سعيد، وهو يعمل في محل لبيع وتأجير العقارات، في حديثه إلى «سوريا 24»، إلى أن متوسط الإيجارات في المدينة شهد ارتفاعًا حادًا خلال الفترة الماضية، واصفًا وتيرة الزيادة بأنها كانت “تصاعدية بشكل مرعب”.
 ويضيف: “الطمع لم يقتصر على التجار فحسب، بل شمل حتى من يدّعون الأخلاق والدين، فحين يتعلق الأمر بتأجير منزل تُنسى المبادئ”.
 ويؤكد سعيد أن بعض المنازل التي كان إيجارها قبل التحرير لا يتجاوز 100 دولار شهريًا، أصبح أصحابها اليوم يطلبون 500 دولار، أي بزيادة تفوق 500٪.
 وتتراوح الإيجارات حاليًا في أحياء الجورة، القرابيص، الوعر، جورة الشياح، والقصور بين 200 و250 دولارًا، بينما ترتفع في الغوطة، الحمرا، الدبلان، الإنشاءات، والمحطة لتتراوح بين 500 دولار وما فوق، وقد تصل في بعض الحالات إلى ألف دولار شهريًا.
ويشير سعيد إلى أن نسبة الدمار الكبيرة التي لحقت بالمدينة تُعد من أبرز أسباب ارتفاع الإيجارات، إضافة إلى جشع بعض المغتربين المقيمين في أوروبا الذين ساهموا في رفع الأسعار، مستغلين حاجة الناس الماسة للسكن.
 ورغم ذلك، يؤكد أن السوق يشهد حاليًا حالة من الاستقرار النسبي بعد موجة الارتفاعات الكبيرة التي شهدها في الأشهر الماضية.
 وتتشارك مدينة حماة وريفها الحال مع جارتها حمص، إذ تشهد سوق الإيجارات ارتفاعًا غير مسبوق، جعل من تأمين سكن ملائم تحديًا يوميًا للأسر محدودة الدخل.
 وبحسب مراسل «سوريا 24»، فإن الأسعار ارتفعت على نحو كبير في ظل غياب أي ضوابط قانونية أو رقابية تنظم السوق العقاري، إذ بلغ سعر إيجار الشقة نحو 250 دولارًا، الأمر الذي أثار استياءً واسعًا بين السكان.
يقول المواطن حسين حلاق إن الوضع “أصبح أشبه بالوهمي”، ويضيف: “أنا مضطر للإقامة في المدينة بسبب عملي، لكن الإيجارات تتراوح حاليًا بين 150 و200 دولار شهريًا، وهو مبلغ يفوق قدرتي المالية بكثير، حيث لا يتجاوز راتبي الشهري مبلغ 130 دولارًا فقط”.
وفي مدينة سلمية بريف حماة، تتكرر المعاناة ذاتها، إذ تقول مادلين فرح، وهي أم لطفل ومعيلة لأسرتها، إن “المشكلة الحقيقية التي أواجهها هي الارتفاع المفاجئ في إيجارات البيوت”، و”يطالبنا صاحب المنزل بزيادة المبلغ أو بالإخلاء، رغم أن الزيادة لا تتناسب إطلاقًا مع الدخل اليومي أو الشهري”.

حلب: من دمار الحرب إلى انفجار الإيجارات
ارتفاع الإيجارات لا يقتصر على العاصمة والمنطقة الوسطى، ففي حلب، تشهد سوق الإيجارات قفزة غير مسبوقة، إذ ارتفعت الأسعار بنحو 700٪ مقارنة بالعام الماضي، خصوصًا في الأحياء التي تم تحريرها خلال معركة ردع العدوان.
 في الأحياء الغربية مثل جمعية الزهراء، حلب الجديدة، الفرقان، والشهباء، تصل الإيجارات في بعض الحالات إلى نحو 1000 دولار شهريًا، مع اشتراط المالكين دفع الإيجار لمدة عام كامل مقدمًا.
 في المقابل، يبلغ متوسط الإيجار في حي الإذاعة نحو 400 دولار شهريًا، بينما تتراوح الأسعار في الأحياء الشرقية المتضررة مثل الصاخور، الشيخ خضر، الحيدرية بين 150 و300 دولار.
يعزى ارتفاع الإيجار في المدينة، بحسب أبو محمد، صاحب مكتب عقاري في حي الفرقان، إلى الضغط الكبير الذي يشهده سوق العقارات، وهو ما أدى إلى تضاعف الأسعار بشكل كبير.
 يربط خلال حديثه لـ«سوريا 24» ارتفاع الإيجارات بعودة آلاف المهجرين واللاجئين، وارتفاع تكاليف الترميم والبناء، إلى جانب غياب الرقابة الفعلية من الجهات المعنية.
 وفي ريف حلب الشمالي، ولا سيما في مدينة أعزاز، تتفاوت الأسعار بين 150 و400 دولار تبعًا لقرب الموقع من مركز المدينة ونوعية الإكساء.
ليست ملاذًا آمنًا
وفي الشمال السوري، تأثرت مدينة إدلب بارتفاع أسعار الإيجارات بشكل ملحوظ خلال الأشهر الأخيرة، لتصل في بعض المناطق إلى الضعف مقارنة بالعام الماضي.
 تقول منتهى محمد، إحدى مهجّري مدينة العيس، لـ«سوريا 24»: إن “إيجار منزلي ارتفع من 100 إلى 200 دولار شهريًا رغم تواضع الإكساء وتسرب الرطوبة إلى معظم الغرف”.
 وفي حي الجامعة، بلغ متوسط الإيجار نحو 250 دولارًا شهريًا، وهو ما يعزوه أصحاب المكاتب العقارية إلى عودة المهجرين من تركيا، والدمار الواسع الذي طال المدن الأخرى، ما جعل إدلب وريفها مقصدًا للكثير من العائدين.
 تُظهر المعطيات أن الإيجارات في إدلب كانت سابقًا تتراوح بين 50 و250 دولارًا، إلا أنها ارتفعت اليوم إلى مستويات غير مسبوقة.
 يقول أحد السكان في سلقين لـ«سوريا 24»: “كنت أستأجر منزلًا بـ100 دولار لثلاثة أشهر، أما اليوم فالإيجار 150 دولارًا شهريًا، وبعض الأحياء تجاوزت 250 دولارًا”.
الساحل السوري.. زيادة السياحة الداخلية ترفع الأسعار
وبالانتقال إلى الساحل السوري، فقد أنعشت السياحة الداخلية سوق الإيجارات في طرطوس، حيث أفادت مصادر «سوريا 24» بأن أسعار الإيجارات شهدت ارتفاعًا يتراوح بين 15٪ و20٪ مقارنة بالعام الماضي، حيث بلغ متوسط إيجار الشقق ذات التجهيز الجيد في مناطق مثل الحمرات والغدير بين 3 و4 ملايين ليرة سورية شهريًا.
 يُعزى هذا الارتفاع إلى زيادة الطلب على المساكن في المدينة الساحلية، التي أصبحت مقصدًا للعديد من العائلات النازحة من المحافظات الداخلية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة والصيانة والخدمات في المناطق الحضرية.
ندرة في العرض وزيادة في الطلب
وبالانتقال إلى الشرق السوري، وبالتحديد مدينة دير الزور، حيث وصلت أسعار الإيجارات إلى مستويات غير مسبوقة بعد التحرير، إذ بلغ متوسط الإيجار نحو مليون ونصف ليرة سورية شهريًا (حوالي 150 دولارًا)، بعد أن كان قبل التحرير لا يتجاوز 20 دولارًا فقط.
 وبحسب ما رصدته «سوريا 24»، فإن إيجار الشقق المتوسطة – من غرفتين وصالة – يصل حاليًا إلى نحو مليون ونصف ليرة سورية، بسبب الدمار الكبير الذي طال معظم أحياء المدينة.
 محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، أعلن في وقت سابق عن وجود أكثر من 35 ألف مبنى مدمّر في المحافظة، مشيرًا إلى أن حجم الدمار الكبير شكّل عائقًا أمام عودة الأهالي إلى مناطقهم.
 وقال السيد أحمد، في مقابلة مع قناة الإخبارية السورية في أيلول/سبتمبر 2025، إن أكثر من ثلثي مدينة دير الزور بحاجة إلى إعادة تأهيل شاملة في بنيتها التحتية، فيما حال الدمار الكبير في عدد من الأحياء دون عودة الكثير من الأهالي إلى منازلهم.
يقول معتز الشعيب، صاحب مكتب عقاري في المدينة، لـ«سوريا 24»: إن “الأهالي يشكون بشدة من ندرة بيوت الإيجار، بسبب الضغط الكبير والحاجة الملحة للمساكن بعد عودة آلاف المهجرين إلى المدينة عقب التحرير”.
 ويضيف أن “الدمار الكبير وغياب المشاريع السكنية الجديدة أدّيا إلى ضغط غير مسبوق على السوق العقارية، ما استغله بعض المالكين لرفع الأسعار بشكل جنوني”.

الطاقة الشمسية هي من تحدد الأسعار
أما في الرقة، فيشهد سوق الإيجارات ندرة واضحة في المعروض، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل لافت خلال الأشهر الماضية.
 وبحسب الصحفي عبد الله الخلف في حديثه لـ«سوريا 24»، فإن متوسط الإيجارات يتراوح بين 250 و350 دولارًا شهريًا للشقق المفروشة بشكل جيد والمزودة بأنظمة طاقة شمسية لتأمين الكهرباء بشكل مستمر، وهي ميزة باتت أساسية في المدينة مع ضعف التيار الكهربائي العمومي.
تطور أسعار الإيجارات بين عامي 2023 و2025
بحسب ما رصده فريق التحرير في منصة «سوريا 24»، ومن خلال متابعة مراسليها خلال السنوات التي سبقت سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 وما تلاه، إضافة إلى بيانات من المصادر المفتوحة، شهدت البلاد قفزة حادة في مؤشرات الإيجار السكني.
 وتستند هذه النسب إلى متوسط الإيجارات بالدولار بين عامي 2023 و2025، وفق بيانات ميدانية لفريق «سوريا 24»، حيث ارتفعت الأسعار في معظم المحافظات بنسب تراوحت بين 250 و500 بالمئة خلال عامين فقط، تبعًا للموقع الجغرافي ومستوى الدمار وحجم الطلب.
في عام 2023، كانت معدلات الإيجار أدنى بكثير مما هي عليه اليوم. ففي دمشق، بلغ متوسط إيجار الشقق الصغيرة في الأحياء الشعبية نحو 500 ألف ليرة سورية شهريًا (ما يعادل 40 دولارًا بسعر صرف 12,500 ليرة للدولار آنذاك)، فيما تراوح في الأحياء المتوسطة بين مليون ومليون ونصف ليرة (80 إلى 120 دولارًا)، ووصل في الأحياء الراقية مثل المالكي والمزة إلى نحو 3 ملايين ليرة (230 دولارًا).
 لكن بعد عامين فقط، وتحديدًا في منتصف 2025، تضاعفت الأسعار في معظم المناطق بين ثلاث وخمس مرات. ففي الأحياء الراقية نفسها، تجاوز الإيجار 4000 دولار شهريًا بدلًا من 230، أي زيادة تفوق 1600 بالمئة بالدولار.
 وفي الأحياء المتوسطة ارتفع إلى 600–900 دولار بعد أن كان بين 80 و120، أي نحو 700 بالمئة. أما في الأحياء الشعبية، فقفز الإيجار من 40 إلى 250 دولارًا، بزيادة تقارب 525 بالمئة.
وفي حلب، حيث تراوح متوسط الإيجار عام 2023 بين 55 و80 دولارًا للشقق المفروشة، وصل في 2025 إلى 150–1000 دولار بحسب الحي ومستوى الإكساء، أي زيادة بين 200 و900 بالمئة.
 أما في حمص وحماة، فقد ارتفع متوسط الإيجار من 30–60 دولارًا عام 2023 إلى 250–500 دولار في 2025، بزيادة تقارب 700 بالمئة.
 وفي المدن الساحلية مثل طرطوس، التي كانت أقل تأثرًا بالأزمة، قفز متوسط الإيجار من 80–100 دولار عام 2023 إلى 150–250 دولارًا عام 2025، أي ما يعادل زيادة بنسبة 150 بالمئة.
 وفي دير الزور، التي شهدت دمارًا واسعًا، ارتفع الإيجار من 20 دولارًا عام 2023 إلى 150 دولارًا في 2025، أي بزيادة تقارب 650 بالمئة.
تُظهر هذه الأرقام، المستندة إلى الرصد الميداني لفريق «سوريا 24»، أن التحول في سوق الإيجارات لم يكن تدريجيًا بل انفجاريًا، ناجمًا عن انهيار العملة المحلية وعودة السكان إلى المدن بعد سقوط النظام، ما ولّد فجوة حادة بين العرض والطلب، وأطلق موجة مضاربة غير مسبوقة جعلت من السكن في سوريا ترفًا بعيد المنال لمعظم المواطنين.

التنظيم العمراني والتمويل هما مفتاح الحل
في خضم الجدل المتصاعد حول أزمة السكن في سوريا وسبل معالجتها، تتجه الأنظار إلى ملف التخطيط العمراني والتنظيم الإداري باعتباره حجر الأساس في أي مشروع لإعادة الإعمار.
 وفي هذا السياق، قال المهندس حسام الدين فاعل، خبير إعادة الإعمار والتنمية المستدامة، في حديث لـ«سوريا 24»، إن الحل الجذري لأزمة السكن يبدأ من تسريع إقرار المخططات التنظيمية التفصيلية، والوصول إلى مخططات تسوية واضحة لكل منطقة.
وأوضح أن المشكلة الأساسية تكمن في ضعف كفاءة الكوادر في بعض البلديات، لا سيما في المدن الكبرى، إضافة إلى بطء عملية الانتقال من المخطط العام إلى المخططات التفصيلية، ثم إلى مخططات التسوية، وهي عملية تتطلب وقتًا وجهدًا وخبرة هندسية عالية.
 وأشار فاعل إلى أن هناك دراسة حالية لإمكانية منح البلديات مناطق كاملة لمطورين عقاريين لتولي عملية إعداد الدراسات والمخططات، على أن تُقر لاحقًا من قبل البلدية أو مجلس المدينة.
 وأوضح أن هذا الإجراء “يختصر وقتًا طويلًا كان سيستهلكه العمل الإداري التقليدي لو بقي بيد البلديات وحدها”، معتبرًا أن هذه الخطوة تمثل أحد الحلول الواقعية لتسريع عمليات التنظيم والبناء.
وفي رده على سؤال حول إمكانية تحول البيروقراطية السورية من عقلية السيطرة إلى شراكة حقيقية مع القطاع الخاص، قال فاعل إن هناك إرادة سياسية واضحة لمعالجة البيروقراطية المفرطة، وإن مجلس الشعب يعمل على إعادة تشكيل الإجراءات الحكومية وتبسيطها.
 وأضاف أن هناك تفاؤلًا كبيرًا بإقرار تشريعات جديدة قادرة على حل الكثير من المشكلات المتراكمة، مؤكدًا أن هذه الإرادة بدأت تتحول تدريجيًا إلى خطوات عملية وواقع ملموس على الأرض.
خبير اقتصادي: السكن في سوريا حق لا امتياز

في ظل التدهور الاقتصادي الحاد وغياب السياسات الإسكانية الفعالة، يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن أزمة السكن في سوريا تحولت من مجرد مشكلة معيشية إلى تحدٍّ وطني شامل يمس البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
ومن وجهة نظره، أن ما يحدث اليوم في السوق العقارية السورية هو انعكاس مباشر لعقود من الخلل التنظيمي والإداري، ترافق مع الدمار الواسع الذي خلفته الحرب وغياب التخطيط العمراني طويل الأمد.
يقول قوشجي لـ«سوريا 24» إن أزمة السكن في سوريا تُعد من أخطر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد حاليًا، موضحًا أنها ليست أزمة طارئة، بل نتيجة تراكمات تنظيمية وسياسات إسكانية غائبة منذ سنوات طويلة.
ويشير إلى أن الفجوة بين تكلفة السكن ودخل المواطن باتت صادمة، إذ يتراوح إيجار المنزل في دمشق بين 650 و800 دولار شهريًا، أي ما يعادل أضعاف متوسط الدخل السنوي للمواطن السوري، في حين تبلغ تكلفة ترميم منزل واحد نحو 50 مليون ليرة سورية، وهو رقم خارج قدرة أي أسرة متوسطة أو محدودة الدخل، في ظل انهيار قيمة العملة المحلية وارتفاع أسعار مواد البناء.
ويعتبر قوشجي أن هذه الفجوة تمثل اختلالًا عميقًا في العدالة السكنية، مشيرًا إلى أن مبدأ «الحق في السكن» أصبح شبه غائب عن الواقع السوري، وأن امتلاك منزل بات حلمًا بعيد المنال حتى للطبقة المتوسطة.
 ويقول: إن “امتلاك منزل في سوريا اليوم يشبه امتلاك ثروة صغيرة، وليس تحقيق حق طبيعي في الاستقرار”، وإن “معظم العائلات باتت عاجزة عن الاستئجار، فضلًا عن التملك”.
ويرى قوشجي أن انعكاسات الأزمة السكنية لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي، بل تمتد إلى الأبعاد الاجتماعية، إذ تشير دراسات إلى أن أكثر من 70٪ من الشباب السوريين يؤجلون الزواج بسبب عدم توافر سكن مستقل، وهو ما يؤدي إلى تراجع مؤشرات الاستقرار الأسري وتفكك الروابط الاجتماعية.
ويضيف أن غياب التمويل العقاري طويل الأجل، وضعف البنية المؤسسية في المصارف وشركات التطوير، إضافة إلى تراجع دور الدولة في تنظيم السوق العقاري وتركه للمضاربات والاحتكار، ساهمت جميعها في تعميق الأزمة.
 ويقول موضحًا: “حين يتحول العقار من وسيلة للسكن إلى أداة للمضاربة المالية، يفقد السوق توازنه، ويُدفع المواطن العادي خارج اللعبة بالكامل”.
ويشير قوشجي إلى أن غياب أدوات تمويل فعالة يُعد أحد أكبر العوائق أمام الحل، داعيًا إلى إعادة بناء منظومة التمويل العقاري عبر أدوات واقعية تتناسب مع الدخل السوري المنخفض.
 ويُقترح في هذا السياق جملة من الخطوات العملية، أبرزها:
- إعادة هيكلة الجمعيات التعاونية السكنية المتعثرة وتفعيل دورها تحت إشراف حكومي مباشر.
 - تأسيس صندوق ضمان للمقترضين لحماية المقترضين من تقلبات الأسعار والمخاطر المصرفية.
 - إطلاق برامج دعم حكومي مباشر تشمل إعانات سكنية أو قروضًا بلا فوائد للفئات محدودة الدخل.
 - اعتماد نموذج “السكن الإيجاري المنظم” كخيار بديل واقعي عن التملك الكامل، لتوفير مساكن مؤقتة للأسر المتضررة أو العائدين من النزوح.
 
ويعتقد قوشجي أن جزءًا كبيرًا من تفاقم الأزمة يعود إلى تحول العقار إلى أداة استثمارية بحتة بيد فئة محدودة من المستثمرين الذين يحتكرون الأراضي المنظمة دون تطويرها، في انتظار ارتفاع الأسعار لتحقيق مكاسب ضخمة.
 ويحذر من أن هذا السلوك جمّد مشاريع التطوير العقاري، وخلق فقاعة سعرية ضخمة لا تعبّر عن الواقع الاقتصادي الفعلي في البلاد.
ويؤكد قوشجي أن الحل لا يمكن أن يكون ترقيعيًا أو جزئيًا، بل يجب أن يستند إلى رؤية وطنية شاملة لإعادة التوازن إلى السوق العقارية.
 وفي ختام حديثه، يشدد الدكتور إبراهيم نافع قوشجي على أن الحق في السكن يجب أن يُعاد إلى موقعه الطبيعي كجزء من كرامة المواطن السوري، قائلًا: “السكن في سوريا يجب أن يكون حقًا إنسانيًا لا امتيازًا طبقيًا”، مهيبًا بضرورة إقرار سياسات عادلة تضمن المأوى لكل أسرة، محذرًا من تحول الفجوة بين المواطن والمسكن إلى أزمة أخلاقية واجتماعية أعمق من الفقر نفسه.
بين الحق في السكن وتحديات البقاء
على وقع الدمار والنزوح وتقلص المعروض السكني، خرجت معادلة السكن في سوريا عن نطاق السيطرة، وبات امتلاك منزل – أو حتى استئجاره – حلمًا يتجاوز قدرات الغالبية الساحقة من المواطنين.
 فقد تحول العقار من وسيلة للاستقرار إلى أداة للربح والمضاربة، بينما بقي المواطن العادي محاصرًا بين انخفاض الدخل وارتفاع الأسعار في سوق لا يرحم.
ويأتي هذا في وقت تشير فيه تقارير دولية، أبرزها تقرير للبنك الدولي صدر في تموز/يوليو 2025، إلى أن أكثر من ثلثي السوريين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى، فيما يعاني ربع السكان من الفقر المدقع.
 وبعد الزيادة الأخيرة التي أعلن عنها الرئيس الشرع، بلغ متوسط راتب الموظف السوري في القطاع العام نحو 80 دولارًا شهريًا فقط، وهو ما يجعله غير قادر حتى على استئجار منزل في ضواحي المدن أو على هامش المناطق الريفية.
هذا الانفصال بين الواقع الاقتصادي والمعيشي يهدد بمفاقمة الهشاشة الاجتماعية، ويحول أزمة السكن إلى أزمة بنيوية تمس الاستقرار العام، وتستدعي تدخلًا تشريعيًا وتنظيميًا عاجلًا يعيد للسكن معناه كحق لا امتياز.

انعكاسات مستقبلية على سوق السكن
تشير المعطيات إلى أن استمرار غياب التنظيم العمراني وضعف التمويل السكني سيؤديان إلى مزيد من الضغط على المدن الكبرى، ولا سيما دمشق وحلب، حيث يُتوقع أن يتضاعف الطلب على الإيجارات خلال السنوات الثلاث المقبلة.
 هذا الاتجاه، إن استمر، سيؤدي إلى تمدد العشوائيات في محيط المدن، وزيادة الفجوة بين المناطق المنظمة والمناطق المتهالكة، ما يهدد بفقدان التوازن في السوق العقارية بشكل كامل.
ويرى خبراء تحدثوا إلى «سوريا 24» أن استقرار الإيجارات مستقبلًا مرهون بمدى قدرة الحكومة الانتقالية على إطلاق مشاريع إسكان ميسرة، وتشجيع الشراكات مع القطاع الخاص، وتفعيل التشريعات التي تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر.
 إن إعادة ضبط السوق العقارية اليوم ليست خيارًا إداريًا فحسب، بل ضرورة اجتماعية واقتصادية تفرضها متطلبات مرحلة إعادة الإعمار وبناء الثقة بين المواطن والدولة.
لمشاهدة الفيديو المصور الخاص بهذا التحقيق:
https://www.facebook.com/reel/815327887769958
“أُعدّ هذا التحقيق الصحفي بمشاركة فريق التحرير وفريق المراسلين/ـات في موقع سوريا 24، إلى جانب قسم الإنتاج المرئي والسوشال ميديا في الموقع”
			
															







