الكهرباء السورية: استثمارات ضخمة في مواجهة بنية منهكة

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص سوريا 24

في خطوةٍ تُعدّ من الأهم منذ أكثر من عقد، وقّعت وزارة الطاقة السورية اتفاقيات امتياز نهائية لبناء وتشغيل ثماني محطات توليد كهرباء جديدة بقدرة إجمالية تبلغ 5000 ميغاواط، مع تحالف دولي تقوده شركة “أورباكون القابضة” القطرية، وبشراكة مع شركتي “جنكيز للطاقة” و”كاليون للطاقة” التركيتين و”باور إنترناشيونال” الأمريكية.

وتأتي هذه الاتفاقيات امتدادًا لمذكرة التفاهم الموقعة في 29 أيار الماضي، التي أرست الإطار العام للتعاون الاستراتيجي في قطاع الطاقة، ووضعت الأسس العملية لإطلاق مرحلة إعادة تأهيل وتطوير البنية التحتية الكهربائية في البلاد.

ومن وجهة نظر وزارة الطاقة، فإن هذه الخطوة تمثل تحولًا استراتيجيًا نحو استقرار المنظومة الكهربائية، باستخدام أحدث التقنيات في الكفاءة والأداء ضمن جدولٍ زمني يُقدّر بعامين على الأقل.

من التفاهم إلى التنفيذ: الاقتصاد يبدأ من الكهرباء
يرى الخبير الاقتصادي محمد غزال خلال حديثه لموقع سوريا 24 أن الانتقال من مرحلة مذكرات التفاهم إلى الاتفاقيات التنفيذية يؤكد جدّية الدولة السورية في الانتقال من النوايا إلى الفعل الاقتصادي الحقيقي.

ويعتقد أن هذا التحول سيساهم في تحريك العجلة الاقتصادية بشكل واسع، ليس فقط من خلال زيادة الإنتاج الكهربائي، بل عبر خلق آلاف فرص العمل وتنشيط الأسواق.

ويقول غزال: إنّ “هذه المشاريع ستفتح الباب أمام مشاركة المقاولين المحليين والموردين وشركات الخدمات، إضافةً إلى الورش الصغيرة”، وهو ما يعني تحريك رأس المال داخليًا ورفع النشاط التجاري والصناعي في آن واحد.

ويضيف من وجهة نظره أن تحسن الكهرباء سيؤدي إلى خفض تكاليف الإنتاج وزيادة العرض، وبالتالي استقرار الأسعار على المدى المتوسط.

رؤية هندسية: بناء المحطات وصيانة الشبكة في آن واحد
من جهته، يرى المهندس أحمد عيشة، وهو مهندس سابق في شركة كهرباء حلب، أن إنشاء محطات توليد جديدة سواء بالطاقات المتجددة أو الوقود الأحفوري لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية.

ويقول: إنّ “البلاد تعاني من نقصٍ حاد في التوليد نتيجة قدم المحطات وغياب الصيانة المطلوبة لسنوات طويلة، حيث لم تعد تعمل بالكفاءة السابقة”، وأنه مع زيادة الطلب على الطاقة في ظل إعادة الإعمار، أصبحت الحاجة ملحّة لتجديد البنية التحتية بالكامل.

ويعتقد عيشة أن تنفيذ هذه المشاريع سيستغرق قرابة عامين على الأقل، مشددًا على أن نجاحها مرتبط بتطوير الشبكة بالتوازي مع بناء المحطات الجديدة.

ويضيف: أن “تصميم مجموعات التوليد والمحولات وربطها مع توترات الشبكة السورية يتطلب عملًا هندسيًا معقدًا، كما أن إصلاح خطوط نقل الطاقة ومحطات التحويل والتوزيع ضرورة موازية لا تقل أهمية عن إنشاء المحطات نفسها”.

ومن وجهة نظره، فإن تحالف “أورباكون” القطرية مع “جنكيز” و”كاليون” التركيتين و”باور إنترناشيونال” الأمريكية يمتلك خبرة كافية لتقديم دعم فني وتدريبي حقيقي، موضحًا: “عادةً ما تتضمن العقود بندًا لتدريب الفنيين على استثمار وصيانة المحطات، وهو ما يتيح للكوادر السورية الاستفادة من الخبرات الدولية، بشرط أن تطلب وزارة الطاقة إدراج ذلك رسميًا في الاتفاقيات”.

ويؤكد عيشة أن نظام العقود الحالي BOOT (البناء – التشغيل – التملك – النقل) يمنح الشركات حرية استقدام فنيين من الخارج، لكنه يتمنى أن تفرض الحكومة السورية بنودًا تلزم الشركات الأجنبية بتدريب الكوادر المحلية، لأن ذلك وحده كفيل بتوطين الخبرة وضمان استدامة المعرفة في الداخل.

كما يرى أن التحالف الدولي يملك قدرات مالية وتقنية ضخمة، غير أن التحديات المقابلة لا تقلّ ضخامة، بدءًا من صعوبة التمويل وتحويل الأموال مرورًا بـ القيود المفروضة على استيراد التجهيزات الحساسة، وصولًا إلى الحاجة لاستقرار سياسي وأمني طويل الأمد يسمح باستمرار العمل دون انقطاع.

ويختتم حديثه باعتقاده أنّ هذه المشاريع ستنعكس إيجابيًا على استقرار الشبكة وتحريك الاقتصاد السوري ككل، لكن في المقابل يشدد على ضرورة وجود سياسة حمائية متوازنة تدعم الإنتاج الوطني دون تعطيل الاستثمار الأجنبي”.

ويفسر ذلك بأنه في حال تم اعتماد تسعير الكهرباء وفق السوق العالمية للوقود، قد تبرز مشاكل متعددة، من بينها زيادة الضغط على الصناعيين غير القادرين على المنافسة”.

بالأرقام..واقع الكهرباء
يُجمع الخبراء على أن قطاع الكهرباء السوري تحمّل خسائر تفوق 40 مليار دولار منذ عام 2011، نتيجة الدمار الواسع الذي طال محطات التوليد وشبكات النقل.

وتملك البلاد 12 محطة توليد، إلا أن معظمها خارج الخدمة أو يعمل بطاقة محدودة، إذ لا تتجاوز القدرة التشغيلية الحالية 1300 ميغاواط، مقابل قدرة تصميمية تصل إلى 9000 ميغاواط في حال إعادة تأهيلها بالكامل.

ولتأمين الكهرباء على مدار الساعة، تحتاج سوريا إلى نحو 23 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا وخمسة آلاف طن من الفيول، وهي كميات تفوق الإمكانات المحلي ة الحالية بأضعاف.

ولذلك، وقّعت دمشق اتفاقية مع قطر لتوريد مليوني متر مكعب من الغاز يوميًا عبر الأراضي الأردنية، لتوفير نحو 400 ميغاواط إضافية تساهم في زيادة ساعات التغذية الكهربائية في دمشق وريفها وعدد من المحافظات.

انعكاسات اقتصادية وتحديات التنفيذ
من جانبه، يرى الصحافي الاقتصادي مصطفى السيد أن هذه الاتفاقيات تمثل نقطة تحوّل مهمة في مسار إعادة الإعمار الاقتصادي، لكنه يقلل من أهمية المبالغة في التفاؤل قبل رؤية نتائج ملموسة على الأرض.

ويقول السيد لموقع سوريا 24: إنّ “نجاح هذه المشاريع مرتبط بعوامل كثيرة، أهمها الاستقرار المالي والسياسي، وإزالة العوائق أمام التحويلات المالية واستيراد المعدات الحساسة”، وأنه “من دون هذه الخطوات، سيبقى التنفيذ بطيئًا ومحدود الأثر”.
ويعتقد السيد أن استقرار الكهرباء هو الأساس لأي عملية إنتاجية، إذ إن “كل ميغاواط إضافي يعني تشغيل معمل جديد، وتحريك خطوط إنتاج متوقفة منذ سنوات”.

كما يرى أن ربط أسعار الطاقة بالسوق العالمية قد يضرّ بالصناعة الوطنية، موضحًا أن الصناعيين المحليين يواجهون بالفعل صعوبات كبيرة في التكاليف وضعف التنافسية بسبب هجرة رؤوس الأموال والخبرات الفنية والتخلف التقني.
ويضيف من وجهة نظره أن الحكومة مطالبة بسياسة اقتصادية مرنة تراعي مصالح الصناعيين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، حتى لا تتحول الشراكات الدولية إلى عبء على السوق المحلية، متمنيًا أن تتدخل الدولة لحماية المصالح الوطنية دون تعطيل الانفتاح الاقتصادي الجاري.

نحو استقرار كهربائي وتنمية مستدامة
في المقابل، يؤكد وزير الطاقة السوري محمد البشير، خلال توقيعه الاتفاقيات التنفيذية أن المشروع يمثل “نقلة نوعية في تطوير البنية التحتية للطاقة”، مشيرًا إلى أنه سيساهم في تعزيز القدرة التوليدية واستقرار الشبكة الوطنية.

أما معتز الخياط، رئيس مجلس إدارة شركة “أورباكون القابضة”، فيعتقد أن هذه الشراكة تشكل “نموذجًا تنمويًا مستدامًا يعزز ثقة الشركاء الدوليين بآفاق التعافي الاقتصادي في سوريا”.

ومن المتوقع أن توفر هذه المشاريع عشرات الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وتُسهم في تحسين بيئة الاستثمار ورفع القدرة التنافسية للإنتاج المحلي، لتصبح الطاقة ركيزة أساسية في النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام خلال السنوات المقبلة.

يجمع معظم الخبراء أن هذه الاتفاقيات تمثل بداية حقيقية لإعادة بناء قطاع الكهرباء السوري بعد عقد من التدمير والعقوبات.
غير أن تنفيذها بنجاح سيعتمد على الاستقرار السياسي، وسهولة التمويل، وقدرة الحكومة على حماية القطاعات الوطنية.

ويعتقد عاملون في الشأن الاقتصادي، أن الكهرباء هي المفتاح الأول لتعافي الاقتصاد السوري، لكنهم يتمنون في المقابل أن لا تبقى هذه الاتفاقيات حبرًا على ورق، بل أن تتحول إلى تيار كهربائي حقيقي يعيد الحياة إلى المصانع والبيوت والاقتصاد بأكمله.

 

مقالات ذات صلة