تصدرت التطورات التي شهدتها العاصمة دمشق واجهة المشهد الأمني، بعد هجوم صاروخي أصاب حيًّا سكنيًّا حساسًا غربي المدينة.
ففي ساعة متأخرة من مساء أمس، سقط صاروخان من نوع “كاتيوشا” على منطقة “المزة 86”، ما أسفر عن إصابات بين المدنيين وأضرار مادية لم تُحدّد طبيعتها بدقة بعد.
التطور لم يُصنَّف كحدث أمني عابر، بل أُدرج ضمن سلسلة من المؤشرات التي تنبئ باحتمال انزياح التهديدات من الساحات المفتوحة إلى قلب المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، بأساليب مختلفة وربما بحسابات جيوسياسية جديدة.
من “أطراف المدينة” إلى “المزة 86”
أشارت وزارة الدفاع السورية، في بيان مقتضب أصدرته إدارة الإعلام والاتصال، إلى أن الصاروخين أُطلقا من “أطراف المدينة”، دون تحديد الجهة الجغرافية الدقيقة، لكنها أكّدت أن فرقًا عسكرية وأمنية تمكّنت من تحديد موقع الإطلاق بدقة، عبر “تحليل زوايا سقوط الصواريخ وتجمّع بقاياها”.
الموقع الذي عُثر عليه لا يبعد كثيرًا عن حدود العاصمة الإدارية، ويجاور مناطق كانت تخضع سابقًا لسيطرة فصائل مسلحة أو ميليشيات محلية، بعضها سلّم أسلحته ضمن اتفاقات “التسويات” التي رافقت انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في أواخر 2024.
ومنذ اكتشاف الموقع، أُغلق ووُضع تحت “تأمين عسكري”، فيما تشير المصادر إلى استمرار تحليل العيّنات (بما في ذلك بقايا الصواريخ، مسحوق الدفع، وأجزاء المحرك) للتحقق من مصدر الصنع أو طبيعة التحديثات المحتملة.
سياقات التوقيت: تزامن حساس
لم يأتِ الهجوم في فراغ. فقد تزامن مع:
• عودة الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارة رسمية إلى واشنطن، وصفتها مصادر دبلوماسية بأنها “تاريخية” من حيث مستوى التطبيع السياسي والاعتراف الضمني بشرعية الإدارة السورية الحالية.
• إعلان رسمي عن انضمام سوريا رسميًّا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، في خطوة تُفسَّر على أنها تسعى لتلبية شروط إعادة الإعمار والدعم الدولي.
من فلول النظام إلى الحسابات الطائفية
في ظل غياب اعتراف أو مسؤولية فورية عن الهجوم، تبقى القراءات مفتوحة، لكنها تتركّز حول سيناريوهات محدودة، تتقاطع أحيانًا في التوصيف وتتباين في التأويل.
وبحسب الأكاديمي والباحث السياسي الدكتور عبد الرحمن الحاج، في حديث لمنصة سوريا 24، فإن: “الاحتمالات محدودة؛ فالصاروخ من نوع كاتيوشا كان يمتلكه النظام وحزب الله، وبالتالي نحن نتحدث فعليًّا عن الفلول، وهم أساسًا متعاونون مع حزب الله، وهذا، في تقديري، السيناريو الأقرب”.
وتابع: “أما لو كان تنفيذ الهجوم من قبل داعش، لاستخدم المفخخات والانتحاريين”.
وزاد بالقول: “الهدف واضح: إظهار أن دمشق، بعد عودة الرئيس من واشنطن في زيارة تاريخية ناجحة للغاية، غير قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، وأن انضمامها إلى التحالف لن يوفّر لها الأمن”.
دوافع طائفية وسياسية مشتركة
الباحث في مركز جسور للدراسات، محمد سليمان، قال في حديث لمنصة سوريا 24: “يأتي هذا الهجوم الذي استهدف أحد المباني في حي المزة 86 بدمشق في ظل أجواء من التوتر تشهدها محافظة السويداء، نتيجة تصاعد هجمات المجموعات الخارجة عن القانون التي تستهدف قوى الأمن العام بهدف زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى في البلاد”.
وأضاف: “استهداف حي المزة 86، المعروف بغالبية سكانه من أبناء الطائفة العلوية، يحمل بعدًا طائفيًّا خطيرًا، ويهدف إلى زرع الفتنة وإيصال رسائل مفادها أن هناك خلايا ناشطة داخل العاصمة تسعى إلى إثارة الرعب والانتقام وإرهاب المدنيين، إضافة إلى تقويض جهود ضبط الأمن المحلي وتعطيل مسار الاستقرار الداخلي”.
ورأى أن: “الجهة المرجحة لتنفيذ هذا الهجوم هي فلول النظام البائد، إذ لا يزال العديد منهم يحتفظ بأسلحة مخبأة، ويبدو من أسلوب تنفيذ العملية أن الفاعلين يتمتعون بمعرفة جغرافية دقيقة بالمكان المستهدف، كما أن سهولة حركتهم داخل البلاد تعود إلى امتلاكهم بطاقات تسوية مُنحت لهم بعد سقوط النظام السابق، ما يتيح لهم تنفيذ هجمات ثم التنقل دون إثارة الشبهات”.
ووسط كل ذلك، فإن الهجوم على “المزة 86” لا يمكن اختزاله في حدث أمني منعزل، وبما أن الهدف من مثل هذه الضربات هو “خلق شعور بعدم الاطمئنان”، فإن التحدي الأكبر أمام السلطات السورية لن يكون فقط في تحديد الجناة، بل في إعادة بناء الثقة لدى السكان في قدرة الدولة على حمايتهم، وهي ثقة بدأت تتعافى بعد سنوات من الصراع.
وفي ظل تغير المعادلات الإقليمية، ودخول دمشق في مسار تطبيع سياسي لا رجعة فيه عمليًّا، فإن أي فراغ في الضبط الأمني الداخلي قد يتحوّل، ولو تدريجيًّا، إلى ورقة ضغط في يد جهات لا تزال تراهن على “فشل التجربة الجديدة”، سواء لأسباب أيديولوجية أو مصلحية.








