تسود مدينة حمص حالة من الهدوء التام بعد أحداث الشغب التي أعقبت الجريمة المروعة في بلدة زيدل، وسط انتشار أمني واسع في الشوارع الرئيسية والأحياء الجنوبية، وامتثال عام لقرار حظر التجوال المفروض من الخامسة مساء حتى الخامسة صباحًا، في محاولة لاحتواء أي تصعيد ومنع الاحتكاكات بين مكونات المدينة.
وقال مصدر أمني في مديرية أمن حمص لـ«سوريا 24» إن التحقيقات ما تزال مستمرة، مؤكدًا أنه «لا توجد حتى الآن أي معلومات مؤكدة حول الجهة التي ارتكبت جريمة زيدل». وأشار إلى توقيف عدد من الأشخاص من مثيري الشغب عقب الحادثة، مع التحفظ عن ذكر الأسماء أو الأعداد «حفاظًا على سرية التحقيق»، لافتًا إلى أن وحدات الأمن الداخلي كثفت انتشارها في مختلف أحياء المدينة.
وتعود بداية الأحداث إلى صباح الأحد، حيث عُثر على رجل من عشائر بني خالد وزوجته مقتولين داخل منزلهما في بلدة زيدل، وقد تعرضت جثة الزوجة للحرق، فيما عُثر في موقع الجريمة على عبارات تحمل طابعًا طائفيًا، ما يشير إلى محاولة ممنهجة لإثارة الفتنة، وفق مصادر محلية. وفور انتشار الخبر، شهدت أحياء مختلطة مثل المهاجرين والأرمن وضاحية الباسل اعتداءات وأعمال تخريب، شملت تكسير واجهات محالّ وإحراق سيارات، ما أدى إلى حالة من الذعر وإغلاق شبه كامل للطرقات، قبل أن تنتشر وحدات الجيش وقوى الأمن الداخلي في معظم الأحياء، ويُقطع طريق حمص–زيدل مؤقتًا لمنع تفاقم التوتر.
وتؤكد سهى سعد الدين، وهي من سكان حي المحطة في حمص، أن حالة من الهدوء عادت تدريجيًا منذ عصر اليوم نفسه بعد فرض حظر التجوال.
وترى أن تضارب المعلومات عبر مجموعات التواصل الاجتماعي لعب دورًا حاسمًا في تضخيم المشهد، موضحة أنها كانت في أحد أحياء الأرمن لحظة انتشار الخبر، مشيرة إلى أن “أصوات السيارات والرصاص بدأت فجأة، وكل شخص كان يفتح هاتفه ليعرف ما يحدث. كانت هناك عشرات الروايات المتناقضة، وكل واحدة تزيد القلق أكثر من الأخرى”.
وتضيف سهى أن غضبًا عارمًا اجتاح أبناء عشيرة الضحايا، ما أدى إلى توجه مجموعات منهم نحو أحياء ذات غالبية علوية، قبل أن تتدخل قوات الأمن وتفرض إجراءات عاجلة لإعادة الاستقرار، موضحة أن “الهدوء لم يتحقق فورًا، لكنه بدأ بالعودة بعد انسحاب المجموعات وبدء القوات الأمنية بالانتشار”.
من جهتها، باشرت الجهات المختصة الإجراءات القانونية منذ اللحظة الأولى، وشملت تطويق مكان الجريمة، جمع الأدلة ورفع العينات الجنائية، مراجعة تسجيلات كاميرات المراقبة، والاستماع إلى شهادات سكان المنطقة. كما جرى تعزيز نقاط التفتيش على مداخل البلدة والقرى المجاورة لمنع أي محاولة لاستغلال الجريمة لإشعال الفتنة أو تأجيج الاحتقان المجتمعي.
مواقف مجتمعية وقبلية
أصدرت قبيلة بني خالد وقبائل حمص بيانًا مصورًا أدانت فيه الجريمة، داعية أبناء المحافظة إلى التهدئة وضبط النفس. وشدد البيان على ضرورة محاسبة الجناة ودعم جهود الأمن في حماية الأهالي، معتبرًا أن العبارات الطائفية في موقع الجريمة تمثل «محاولة مباشرة لإشعال الفتنة وجر المنطقة نحو توترات أمنية جديدة».
تحركات وزارة الداخلية
أعلنت وزارة الداخلية السورية تنفيذ انتشار مكثف لوحدات من قوى الأمن الداخلي والجيش داخل بلدة زيدل وعدة مناطق جنوب حمص، بهدف «منع أي إثارة للفتنة»، مؤكدة استمرارها في جمع الأدلة وتنفيذ الإجراءات القانونية اللازمة لتحديد الجناة وملاحقتهم قضائيًا. ودعت الوزارة السكان إلى التعاون والالتزام بالتوجيهات الرسمية حفاظًا على الاستقرار العام.
ينتمي الضحيتان إلى عشائر بني خالد البدوية، وتشير العبارات الطائفية المكتوبة داخل المنزل، وفق روايات الأهالي، إلى محاولة مقصودة لإحياء حساسيات قديمة. وتعيش حمص منذ سقوط النظام السابق موجات متكررة من التوتر في الأحياء المختلطة، تتخللها حوادث قتل وخطف وانتقام، بينما تحاول مجموعات السلم الأهلي احتواء الاحتقان بالتعاون مع مؤسسات الدولة.
تداعيات وحلول مقترحة
وترى المحامية وعد القاضي أن تداعيات الجريمة تأتي في سياق طبيعي لمدينة عانت “مجازر ونزاعات دامية على مدى أربعة عشر عامًا”، موضحة أن طريقة تنفيذ الجريمة — القتل والتنكيل والعبارات الطائفية — أعادت إلى الأذهان الذاكرة العميقة للعنف. وتقول إن الهدف الأساسي من الجريمة “إثارة الفتنة وليس استهداف الضحايا بحد ذاتهم”، معتبرة أن ردود الفعل العشائرية التي أعقبتها جاءت في إطار غضب اجتماعي غير منظم.
وتؤكد القاضي أن معالجة تداعيات الحادثة تتطلب العمل على ثلاثة مسارات:
المسار القانوني: الإسراع في التحقيقات وتقديم الجناة إلى القضاء، إضافة إلى متابعة التحريض عبر وسائل التواصل، وتفعيل قانون الجرائم الإلكترونية بما يفرض عقوبات رادعة.
المسار الإعلامي: نقل صورة واقعية بعيدًا عن التضخيم، ووقف استثمار خطاب الكراهية إعلاميًا.
المسار المجتمعي – السياسي: توسيع جلسات الحوار بين مختلف المكونات الاجتماعية والدينية في المدينة، وتشجيع مبادرات السلم الأهلي وإشراك مؤسسات المجتمع المدني في احتواء الأزمات.
وختمت القاضي بالقول إن مسار العدالة الانتقالية هو المدخل الأساسي لطي صفحات العنف في المدينة، مؤكدة أن التأخير في محاسبة مرتكبي الجرائم “يبقي الجراح مفتوحة ويزيد الاحتقان”، بينما يمكن أن تؤدي العدالة إلى “تعزيز السلم الأهلي في حمص وفي سوريا عمومًا”.








