بعد التغيّرات الكبيرة التي شهدتها سوريا في 8 كانون الأول 2024 وسقوط النظام، تبرز أمام ملايين السوريين في مناطقٍ طالما عاشت معزولة إعلاميًا أسماء وشخصيات لم يُتح لهم التعرّف إليها سابقًا. من بين هؤلاء يأتي رائد الفارس، الاسم الذي شكّل في سنوات الثورة رمزًا لحرية التعبير والعمل المدني، ورمزًا لمدينة صغيرة رفضت أن يُصادَر صوتها: كفرنبل.
واليوم، في ذكرى رحيله، يبدو التعريف به واجبًا وطنيًا وإنسانيًا، لإعادة وصل ما انقطع بين السوريين، ولتقديم سيرة رجل حاول إنقاذ فكرة الوطن عبر الكلمة.
صوت مدينة تحلم بالحرية
رائد الفارس (1972–2018) لم يكن صحفيًا بالمعنى التقليدي، ولم يتلقَّ تدريبًا مهنيًا في الإعلام. كان تاجرًا عاديًا قبل عام 2011، لكن الثورة التي اندلعت في سوريا غيّرت حياته، فوجد نفسه في قلب الحراك المدني في مدينته.
في تلك السنوات، حين كانت الحرب تلتهم الجغرافيا والناس، ابتكر رائد لغة جديدة للاحتجاج: لافتات كفرنبل الشهيرة.
كانت لافتات مكتوبة بخط اليد، ساخرة، بسيطة، لكنها عميقة ومباشرة، تُخاطب العالم بلغته، وتُخاطب السوريين بوجدانهم. انتشرت تلك اللافتات في الصحف العالمية والشاشات، وصارت صورة كفرنبل مرادفة لصوتٍ مدنيّ لم يُرِد أن يموت.
راديو فريش… إذاعة من قلب الخطر
عام 2013 أسس رائد الفارس إذاعة “راديو فريش”، وهي محطة محلية صغيرة بثّت أخبارًا وبرامج خدمية وموسيقية، في وقتٍ كانت معظم الأصوات فيه إما صوتَ سلاح، أو صدى لتحزّبات متشددة.
لم تكن الإذاعة مجرد مشروع إعلامي، بل كانت محاولة للتشبث بالحياة الطبيعية.
واجهت المضايقات من النظام وأطراف من المعارضة نفسها، وتعرضت للإغلاق والمداهمة، لكن رائد ظلّ مؤمنًا بأن للناس حقًا في سماع صوتٍ مختلف.
رجل واجه الجميع وقال ما يعتقد
في زمنٍ استسلم فيه كثيرون للخوف، لم يتراجع رائد الفارس. انتقد النظام، وانتقد داعش، وبعض فصائل المعارضة، وانتقد المجتمع الدولي.
لم يكن صوت معركة، بل صوتَ حياة.
لم ينحز إلى فصيل، بل انحاز إلى الناس وإلى فكرة الحرية المدنية التي لم يكن سلاحها سوى الكلمة.
الرحيل المفجع
في 23 تشرين الثاني 2018، خرج رائد الفارس من صلاة الجمعة مع صديقه وزميله المصور حمود جنيد. وفي الشارع، أُطلق عليهما الرصاص من مسلحين مجهولين.
رحل الرجل الذي حمل لسنوات صوت مدينته على كتفيه. ولم يُعرَف حتى اليوم القاتل بشكل رسمي.
لكن الأكيد أن من قتل رائد أراد إسكات الكلمة… فارتفعت الكلمة أكثر.
لماذا الحديث عنه اليوم؟
لأن سوريا الجديدة بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024 تحتاج إلى معرفة كل شخصٍ حُجِب اسمه عنها قسرًا.
ولأن رائد الفارس لم يكن “إعلاميًا من إدلب” فقط، بل كان وجهًا من وجوه سوريا التي آمنت بالحياة، لا بالموت.
ولأن إعادة سرد قصته هي خطوة لإعادة وصل الذاكرة الوطنية بين أبناء البلد الواحد.
إرثٌ يبقى
لافتات كفرنبل ما زالت حتى اليوم تُعرض في معارض عالمية.
برامج راديو فريش ما زالت محفوظة كتوثيق لزمنٍ حاولت فيه مدينة صغيرة أن تقول:
“نحن هنا… ولسنا أرقامًا.”
وفي ذكرى اغتياله، يبدو رائد الفارس درسًا بالغ الأهمية لسوريا التي تحاول أن تُعيد بناء نفسها: أن الكلمة الحرّة لا تموت… حتى لو أسكتوا صاحبها.








