يشكل إلغاء قانون «قيصر» تحولًا بالغ الأهمية في المشهد الاقتصادي السوري، لما يحمله من انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على حركة الاقتصاد والقطاع المصرفي.
فالقانون، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2020، كان أحد أبرز أدوات العزل المالي، إذ قيد قدرة المصارف السورية على التعامل مع النظام المالي العالمي، وعرقل التحويلات المالية، وشل الاستيراد والتصدير، ما أدى إلى خنق الدورة الاقتصادية وتعميق الأزمات المعيشية.
ومع تثبيت إلغائه، تُفتح نافذة حذرة لإعادة تنشيط الحركة التجارية، وتخفيف القيود المصرفية، واحتمالات إعادة وصل المصارف السورية بالقنوات الدولية، بما فيها العودة التدريجية إلى منظومة «سويفت».
ويأتي هذا التطور في وقت تشير فيه مصادر تشريعية وإعلامية أمريكية إلى أن مجلس النواب الأمريكي صوّت لصالح إلغاء قانون «قيصر» ضمن الصيغة التوافقية للتشريع المطروح، ومن المقرر تمريره في مجلس الشيوخ، على أن يُحال إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتوقيع عليه، حيث من المتوقع أن يدخل حيز التنفيذ نهاية العام الجاري.
في هذا السياق، يؤكد آلان خضركي، استشاري مصرفي، أن تثبيت رفع العقوبات يُلغي عمليًا العزل المفروض على الاقتصاد السوري، وهو عزل لم يكن وليد السنوات الأخيرة فحسب، بل امتد بأشكال مختلفة لما يقارب ستة عقود، وأخرج سوريا قسرًا من التفاعل الطبيعي مع الاقتصاد العالمي.
ويرى خضركي خلال حديثه لموقع سوريا 24 أن رفع «قيصر» يمثل نقطة انطلاق لا نقطة وصول، إذ يتيح استئناف عمليات الاستيراد والتصدير التي تُعد عصب الحياة الاقتصادية، ويعيد تحريك القطاع المصرفي الذي ظل معطلًا لما يقارب أربعة عشر عامًا بفعل العزل المالي.
ويشدد خضركي على أن رفع العقوبات لا يعني الجاهزية التلقائية للاندماج في النظام المالي العالمي، بل يضع الدولة أمام استحقاقات معقدة، في مقدمتها الاستثمار العاجل في البنية التحتية الرقمية للقطاع المصرفي.
ويشير إلى أن المصارف السورية متأخرة تقنيًا بنحو خمسة وعشرين عامًا عن المعايير العالمية، وأن أنظمتها لا تزال بدائية، في حين بقيت كوادرها معزولة لسنوات طويلة عن ضوابط الامتثال الدولي، ومقطوعة عن العمل ضمن منظومة «سويفت».
ويرى أن إعادة تأهيل هذه الكوادر عبر برامج تدريب مكثفة تقودها خبرات وطنية مؤهلة تُعد أولوية لا تقل أهمية عن إصلاح الأطر التشريعية والتنظيمية، محذرًا من أن الاعتماد على خبرات غير وطنية في مراحل سابقة لم يؤدِّ إلى بناء قدرات مستدامة، بل أسهم في تكريس مصالح ضيقة دون نقل معرفة حقيقية.
كما يحذر خضركي من أن التحدي الأخطر بعد رفع العقوبات يتمثل في السمعة المتدهورة للغاية للقطاع المالي السوري، وتصنيفه كقطاع عالِ المخاطر، موضحًا أن المؤسسات الدولية لا تزال مترددة في تعديل تصنيف سوريا، رغم سقوط النظام السابق ووجود حكومة جديدة تعلن التزامها بالمعايير الدولية.
ويبرز في هذا الإطار ملف أموال بشار الأسد وشبكات غسل الأموال المرتبطة بها، متسائلًا عن جاهزية الدولة لملاحقة الأرصدة المهربة، واستعادة الأموال السورية في الحسابات السرية، ومنع إعادة اختراق النظام المالي.
من جهته، يرى د. معروف الخلف، مدير مركز البحوث الاستراتيجية في جامعة دمشق، أن إلغاء قانون «قيصر» قد لا ينعكس أثره بشكل مباشر على المدى القصير، لكنه يهيئ الظروف الأساسية لعودة الاستثمار العربي والأجنبي، ولا سيما في قطاعات البنية التحتية، والصناعة، والزراعة.
ويؤكد أن هذه العودة مشروطة بتوفير بيئة قانونية حديثة، وتسريع التحول الرقمي، وتحديث السياسات الضريبية، وتسهيل إجراءات التراخيص.
ويشير الخلف إلى أن الحكومة مطالبة بخطوات متوازية تشمل تمكين البنك المركزي من استعادة أدواته النقدية، وإعادة تفعيل بوابة «سويفت» تدريجيًا، وإصدار عملة جديدة على المدى المتوسط، مع الإقرار بوجود اختلالات بنيوية عميقة لا يمكن معالجتها خلال فترة قصيرة.
ويؤكد أن ما يمكن تحقيقه في المرحلة الأولى هو تعافٍ اقتصادي لا تنمية مستدامة، وأن دور الحكومة يجب أن يكون إشرافيًا ضمن اقتصاد حر، مع التركيز على زيادة الإنتاج والصادرات وامتصاص معدلات الفقر والبطالة.
ويتفق الخبيران على أن رفع العقوبات يمثل فرصة تاريخية نادرة للسوريين، لكنها في الوقت نفسه اختبار صعب.
فنجاح هذه المرحلة مرهون بإدارة حكومية جادة، وإصلاحات مصرفية وتشريعية عميقة، وبناء بيئة آمنة وجاذبة للاستثمار، وتحويل الانفتاح الدولي من مكسب سياسي إلى استقرار اقتصادي مستدام، يقوم على الشفافية والكفاءة والمساءلة، ويقطع نهائيًا مع ممارسات الماضي.








