أبو فرات… حين تصبح الذاكرة واجبًا بعد سقوط الاستبداد

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص - سوريا 24

«أنا حزين… هذه الدبابات دباباتنا، وهذا العتاد عتادنا، والذين يموتون إخوتنا».
بهذه الكلمات، التي قالها قبل ساعات من استشهاده، يُستعاد اليوم، في ذكرى استشهاده، اسم العقيد يوسف الجادر، المعروف بـ أبو فرات، لا بوصفه شخصية من الماضي، بل كجزء من ذاكرةٍ تُفتح من جديد بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.

إن استذكار أبو فرات اليوم لا يأتي من فراغ. فسقوط النظام الذي حكم سوريا لعقود بالقمع والتغييب أتاح فرصة حقيقية لإعادة سرد تاريخ الثورة السورية كما عاشه أهلها، لا كما صوّرته الدعاية الرسمية أو شوّهته سنوات الحرب. ومع هذا التحوّل، بات من الضروري التوقف عند أسماء شهداء الثورة السورية الذين جرى تغييبهم عمدًا عن الوعي العام، داخل البلاد وخارجها، وحرمت أجيال كاملة من معرفة وجوههم وأصواتهم ومواقفهم.

وُلد يوسف الجادر عام 1970 في مدينة جرابلس، ونشأ فيها قبل أن يشق طريقه في المؤسسة العسكرية. بعد إنهائه دراسته الثانوية، التحق بالكلية الحربية في حمص مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتخرّج منها عام 1993 برتبة ملازم أول. أمضى سنوات طويلة في سلاح المدرعات، تدرّج خلالها في الرتب حتى أصبح عقيدًا وقائدًا لكتيبة دبابات في اللاذقية، أحد أكثر المواقع حساسية في البنية العسكرية للنظام.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجد الجادر نفسه أمام اختبار لم يكن مهنيًا بقدر ما كان أخلاقيًا. لم يكن قرار الانشقاق سهلًا أو لحظيًا، لكنه في 18 تموز/يوليو 2012 أعلن خروجه من الكتيبة 692 مدرعات، منضمًا إلى صفوف الجيش السوري الحر عبر لواء التوحيد. منذ تلك اللحظة، عُرف بلقب أبو فرات، الاسم الذي ارتبط لاحقًا بخطاب مختلف في زمنٍ هيمن عليه منطق القوة.

في حلب وريفها، شارك أبو فرات في معارك مفصلية، وكان حضوره بارزًا في حي صلاح الدين، قبل أن يتقدّم دوره في معركة مدرسة المشاة التي انطلقت في 13 كانون الأول/ديسمبر 2012. هناك، لم يظهر فقط كقائد عسكري، بل كصاحب رؤية حاول الموازنة بين تحقيق الهدف العسكري وتقليل الخسائر البشرية. سعى إلى التفاوض، ودعا إلى الانشقاق، وأبدى حزنًا علنيًا على مقتل جنود النظام، معتبرًا أنهم ضحايا قرار سياسي لا علاقة لهم به.

تميّز أبو فرات بخطاب علني نادر في تلك المرحلة، رفض فيه الطائفية بوضوح، وخاطب السوريين على اختلاف انتماءاتهم، محذرًا من الانجرار إلى صراع أهلي. تلك الكلمات، التي قوبلت حينها بالدهشة أو الجدل، تُقرأ اليوم بوصفها جزءًا أصيلًا من أخلاقيات الثورة السورية التي يحاول السوريون استعادتها بعد زوال النظام الذي شوّه صورتها وحاصر روايتها.

في 15 كانون الأول/ديسمبر 2012، وبعد يوم واحد فقط من إعلان السيطرة على معظم مدرسة المشاة، استُهدف مقر أبو فرات بقذيفة مدفعية أطلقتها قوات النظام، ليستشهد مع عدد من رفاقه. برحيله، خسر كثيرون قائدًا، لكنهم احتفظوا بكلماتٍ تحوّلت مع الزمن إلى وثيقة أخلاقية لمرحلة كاملة.

إن استذكار يوسف الجادر اليوم هو فعل مقاومة للطمس الذي مارسه نظام الأسد طوال سنوات، ومحاولة لتعريف جمهور جديد نشأ في ظل التعتيم والدعاية بوجوه الثورة الحقيقية، وبأنها لم تكن مجرد سلاح أو فوضى، بل كانت أيضًا مواقف وأصواتًا ورجالًا اختاروا دفع الثمن دون أن يتخلوا عن إنسانيتهم. في سيرة أبو فرات، تُستعاد الثورة كما أرادها كثير من أبنائها: ثورة حرية، لا ثورة كراهية.

مقالات ذات صلة