كلما عدت بالذاكرة إلى أيام قضيتها كسجينة من بين آلاف مثلي ضمهن سجن عدرا كمعتقلات رأي ضد نظام الأسد، تعود إلى الذاكرة دوماً لحظات عشتها وعايشتها كنت الأصغر سنا بين الفتيات في مهجعنا وحتى في المهاجع المجاورة فلم أبلغ وقتها التاسعة عشر، وأظن أن شكلي جعل المحيطين بي يعاملونني كما لو كنت طفلة بعمر عشر سنوات، هذه المعاملة لم تقتصر على البالغات من نزيلات قسم النساء في سجن عدرا، فحتى نزلائه من الأطفال الصغار من الجنسين والذين كانوا برفقة أمهاتهم يعيشون ظروف الاعتقال معاً، هؤلاء أيضا كانوا ينظرون نحوي وكأنني واحدة منهن فنقضي معظم وقتنا نلعب سويةً، أمازحهم وألاطفهم حتى أنهم تعلقوا بي بدرجة كبيرة، ما دفع أمهاتهم أحياناً للاعتماد علي كوسيلة لإقناعهم عند تقليم أظافرهم أو حتى تبديل ملابسهم أو تسريح شعرهم، وتعلمون جميعا كم يصعب إقناع الطفل بالقيام بهذه الأمور بسهولة ويسر.
“يزن” ابن العامين زميل سجني ورفيقي الطفولي المقرب، كان الأقرب إلي من بقية أقرانه، أو لنقل أنا كنت أقرب إليه من بقية من يحيطون به من نساء، فما أن يستيقظ صباحاً حتى يرقب لحظة فتح الأبواب بين المهاجع لتراه يهرع نحو سريري وهو يهزني بيديه الصغيرتين طالباً مني أن نبتدأ مشوار لعبنا اليومي أتثاقل أحياناً في إجابته لما يريد فحيناً أكون راغبةً بساعة نوم أخرى وأحيانا لا أشعر برغبة كبيرة في اللعب، مع هذا كنت أجد نفسي مضطرة للإجابة وما هي إلا لحظات حتى اندمج معه وأبدأ في مسايرته وإضحاكه إلى أن يحين موعد الفطور.
“يزن” كان ملازماً لي معظم أوقات النهار منذ الساعة التاسعة صباحا وحتى موعد إغلاق الأبواب بين المهاجع قرابة الثالثة عصراً، فيعود الى مهجعه برفقة امه مودعا اياي وهو يعدني زيارته لي عند موعد فتح الأبواب القادم، لم يكن لقائي اليومي بيزن يقتصر على اللعب وحده بل كنت بمثابة المعلمة له كأخت تكبره سناً، فراح يتعلم مني بعض الحركات كطريقة جلوسي أو كلامي ويقلدني فيها حتى المفردات وأسماء بعض الأشياء، كان يزن يتعلمها مني وليس من أمه التي تنتمي إلى بيئةٍ تختلف بلهجتها وبعض عادتها عن البيئة الإدلبية، كانت تنحدر من العاصمة دمشق هذا التأثر لاحظته أم يزن بنفسها ففي اكثر من مرة كانت تقول لي بلهجة محببة: “سامحك الله فأبني نسي لهجتنا واختلط حديثه بمفردات إدلبية حتى أنه استبدل الشو الشامية الخفيفة بالأشو الادلبية والمعلئة بالخاشوقة لدرجة أنني أحيانا احتاج لمترجم ليفهم عليه، وأقول في نفسي كيف سأصنع حين يأذن الله للإفراج بواحدة منا”.
لم يقتصر تأثر “يزن” بلهجتي فقط، بل بت ألاحظ تأثره بعدة لهجات كان يتلقطها من زميلاتي النزيلات فكلما سمع إحداهن تتحدث كان يقوم بتقليدها وشيئا فشيئا تصبح من ضمن مفرداته لدرجة أصبح يتحدث في الجملة الواحدة بمفردات هي خليط من لهجات ديرية ودرعاوية وإدلبية مطعمة بمصطلحاته الشامية، فكان من يسمعه بما فيهم أنا يصعب علينا فهم مفرداته وبخاصة أنه كان يلفظها بصورتها المغلوطة كونه صغير السن، وهذه المفردات غريبة عليه، لكنها بقيت الأشو ملاصقة له بشكل دائم فاستبدلها مكان الشو الشامية حتى بات القادم إلى عدرا حديثاً يظن للوهلة الأولى بأنه أخ لي ولا يصدق عندما يعلم أنه من أبناء العاصمة.
حالة “يزن” لم تكن الوحيدة، فسجن عدرا كان يضم ما يقارب 60 طفلا دون سن الخامسة يعيشون في بيئة غير متجانسة من ناحية المكان الذي أتت منه المعتقلات، فالمهجع الواحد كان يضم عشرة محافظات على الأقل، ما يدفع الأطفال إلى تعلم مفردات جديدة تجعل منهم خليطاً لا يسهل على المرء تمييز المنطقة أو المدينة التي أتى منها هذا الطفل أو ذاك، فبدل أن يسافر “يزن” ليزور محافظات القطر ويتعرف لهجاته، واقع ومجتمع السجن اللامنطقي جعله يعايش كل اللهجات ويتعرف على أغلب المحافظات وهو في سن الثانية فقط.
“ريتا خليل” من ريف محافظة إدلب، معتقلة سابقة لدى النظام السوري، وتعمل حالياً في المجال الإعلامي والصحفي من الداخل السوري.








