Facebook
Twitter
WhatsApp
Telegram

معتقلة سابقة تتحدث عن معاناة سيدة مسنة في سجون النظام

ريتا خليل - SY24

عندما ينتقل شخص ما من بيئته الطبيعية إلى بيئة أخرى يكون في الفترة الأولى التي يقضيها في بيئته الجديدة مستنفر الحواس دقيق الملاحظة يسجل المشاهدات حوله حتى يستوعب محتويات ومتغيرات الواقع من حوله، هذا حال الإنسان الطبيعي الذي يبدل واقعه باختياره، فما بالكم بمن نام في منزله وهو يحلم بالغد الجميل ليستيقظ وإذ به في فرع الأمن العسكري في حلب معتقلاً ضمن معتقلين كثر أغلبهم يجهل حتى لماذا هو هنا.

هذا هو حالي أنا في الفترة الأولى التي قضيتها في معتقلي الأول بفرع الأمن العسكري في حلب، فكنت أحفظ كل شاردة وواردة وكل صورة أراها أمامي وحتى الأسماء.

من الصور التي ما زالت راسخة في ذاكرتي في تلك الفترة العجوز “أم محمد” البالغة من العمر 60 عاماً، مريضة سكري لم يشفع لها سنها ووضعها الصحي لدى سجانها، الذي لم يرأف بحالها أو عاملها معاملة أخف وطأة مما كنا نلاقيه نحن الفتيات الأصغر سناً.

كانت أم محمد تتعرض لكل أنواع التعذيب من ضرب وإهانة وتخويف وضغط نفسي وجسدي لانتزاع اعترافات منها بالإكراه في تهم صورية من تأليف ذهن المحقق الفذ، كنت أتعاطف معها كثيراً بعد عودتها من جلسات التحقيق وعلامات التعذيب بادية على ملامحها وعلى جسدها المتهالك المنهك بفعل المرض بالأساس.

حفلة تعذيبنا كانت تنتهي مع مغادرتنا لغرفة التحقيق مع بقاء آثارها علينا، أما في حال أم محمد فتعذيبها كان مستمراً حتى وهي بيننا في الزنزانة، فكما هو معلوم يضطر مريض السكري إلى حاجته للتبول مرات كثيرة خلال اليوم الواحد، فكان سجاننا يستغل حاجتها تلك ليمارس عليها فنون الضغط والعذاب عبر رفضه السماح لها بالخروج إلى دورة المياه رغم توسلاتها الكثيرة واستعطافها له في كل مرة، كنا نتألم كثيراً لرؤيتها وهي تنهار خلف باب الزنزانة والدموع تنهمر من عينيها تتوسل عنصر الأمن مانحة إياه كل أوصاف التبجيل والمدح عله يرق لها ويتحرك بقايا من إنسان مات وانتهى خلف هذا الوجه القاتم.

خمسة وأربعون يوماً قضيتها مع أم محمد كانت عذاباً متصلا لها لا ينتهي وعذاباً لنا نحن أيضا بل كنا نقيم معها في ذات الزنزانة حتى موعد الطعام، والذي هي بحاجة ماسة له في ظل هذه الظروف وغياب الدواء والعناية الطبية، إلا أن حفلة الطعام تلك كانت بمثابة العذاب هي الأخرى لأم محمد، فنتيجة مرضها فقدت أسنانها كلها فأصبحت عملية تناول الخبز اليابس المليء بالعفونة عقوبة أخرى مستمرة تضاف إلى العقوبات التي عانتها وتعانيها كل يوم وكل لحظة.

غادرت فرع الأمن العسكري مرغمة ليتم سوقي باتجاه ما ينتظرني من فروع أخرى سأمر عليها في مسيرة اعتقالي الطويلة، ومن لحظة مغادرتي انقطعت أخبار أم محمد عني ولست أعلم هل كتب لها النجاة والعودة إلى أهلها ومنزلها لتلقى العناية الطبية اللازمة، وتحظى برعاية تعوضها ولو جزءً بسيطاً من معاناتها داخل السجن، أم أنها ما زالت حتى اليوم تقف على باب الزنزانة تترجى جلادها أن يمنحها جزءاً من رحمة هو فاقد لها بالمطلق.